عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

كتاب البيوع
  
              

           (ص) ♫
           ░░34▒▒ كِتَابُ البُيُوعِ.
          (ش) أي: هذا كتابٌ في بيانِ أحكام البيوع، ولمَّا فرغ البُخَاريُّ مِن بيان العبادات المقصودِ منها التحصيلُ الأخرويُّ؛ شَرَعَ في بيان المعاملاتِ المقصود منها التحصيل الدنيويُّ، فقدَّم العباداتِ لاهتمامها، ثُمَّ ثنَّى بالمعاملات؛ لأنَّها ضروريَّةٌ، وأخَّر (النِّكاح) لأنَّ شهوته متأخِّرة عنِ الأكل والشرب ونحوهما، وأخَّر (الجنايات) والمخاصمات؛ لأنَّ وقوع ذلك في الغالب إِنَّما هو بعد الفراغ مِن شهوة البطن والفَرْج، وأغرب ابن بَطَّالٍ فذكر هنا (الجهاد) وأخَّر البيع إلى أن فرغ مِنَ (الأيمان والنذور)، قال صاحب «التوضيح»: ولا أدري لِمَا فعل ذلك؟ وكذلك قَدَّم (الصومَ) على (الحجِّ) أيضًا.
          قُلْت: لَعَلَّه نظر إلى أنَّ الجهادَ أيضًا مِنَ العبادات المقصودِ منها التحصيل الأُخرَويُّ؛ لأنَّ جُلَّ المقصود ذلك؛ لأنَّ فيه إعلاءَ كلمةِ الله تعالى، وإظهارَ الدين، ونشرَ الإسلام، وبعضُ أصحابنا قَدَّم (النكاح) على (البيوع) في مصنَّفاتهم؛ نظرًا إلى أنَّهُ مُشتَمِلٌ على المصالح الدينيَّة والدنياويَّة، ألَا ترى أنَّهُ أفضلُ مِنَ التخلِّي للنوافل؟ وبعضهم قَدَّم (البيوع) على (النكاح) نظرًا إلى أنَّ احتياجَ الناس إلى البيعِ أكثرُ مِنَ احتياجهم إلى النكاح، فكان أهمَّ بالتقديم.
          قُلْت: لمَّا كان مَدَارُ أمور الدين بخمسةِ أشياءَ؛ وهي: الاعتقادات، والعبادات، والمعاملات، والزواجِر، والآداب، فالاعتقادات محلُّها عِلمُ الكلام، والعبادات قد بيَّنها؛ شَرَعَ في بيان المعاملات، وَقَدَّم منها البيوع نظرًا إلى كثرةِ الاحتياجِ إليه، كما ذكرناه الآن.
          ثُمَّ إنَّهُ ذَكَر لفظ (الكتاب) لأنَّه مُشتَمِلٌ على الأبواب، وهي كثيرةٌ في أنواع البيوع، وَجَمَعَ (البيع) لاختلاف أنواعه؛ وهي: المطلق: إن كان بيعُ العَينِ بالثمن، والمقايضة: إن كان عَينًا بعَين، والسَّلَم: إن كان بيعَ الدَّين بالعين، والصَّرف: إن كان بيع الثمن بالثمن، والمرابَحة: إن كان بالثمن مَعَ زيادة، والتولية: إن لم يكن مَعَ زيادة، والوضيعة: إن كان بالنقصان، واللازم: إن كان تامًّا، وغير اللازم: إن كان بالخيار، والصحيحُ، والباطلُ، والفاسدُ، والمكروه.
          ثُمَّ للبيعِ تفسيرٌ لغةً وشرعًا، وركنٌ وشرطٌ ومحلٌّ وحكمٌ وحِكْمَةٌ.
          أَمَّا تفسيره لغةً فمطلق المبادلة، وهو ضِدُّ الشراء، والبيع الشراء أيضًا باعه الشيء وباعه منه جميعًا فيهما، وابتاع الشيء اشتراه، وأباعه عَرَّضه للبيع، وبايعه مبايعةً وبياعًا عارضه بالبيع، والبَيِّعان: البائع والمشتري، وجمعه باعة عند كراع، والبيع اسم المبيعِ والجمع بيوعٌ، والبيَّاعات الأشياء المبتاعة للتجارة، ورجلٌ بَيُوع: جَيِّد البيع، وبيَّاع: كثير البيع، ذكره سيبويه فيما قاله ابن سِيدَه، وحكى النَّوَوِيُّ عن أبي عبيدة: «أباع» بمعنى «باع»، قال: وهو غريبٌ شاذٌّ، وفي «الجامع»: أبعتُه أبيعه إباعةً؛ إذا عَرَضتَه للبيع، ويقال: بعتُه وأبعتُه بمعنًى واحدٍ، وقال ابن طَريف في (باب فعل وأفعل) : باتِّفاقٍ معنى «باع الشيء وأباعه» عن أبي زيد وأبي عُبيدة، وفي «الصحاح»: والشيء مَبيع ومَبيوع، والبياعة: السِّلعة، ويقال: بِيعَ الشيء؛ على ما لم يُسمَّ فاعله، إن شئتَ كسرتَ الباء، وإن شئتَ ضممتَها، ومنهم مَن يقلب الياء واوًا فيقول: بُوعَ الشيء، وقال ابن قُتيبة: «بعت الشيء» بمعنى بعته وبمعنى اشتريته، و«شريت الشيء» بمعنى اشتريته / وبمعنى بعته، ويقال: استبعتُه؛ أي: سألتُه البيع، وقال الخليل: المحذوف مِن «مبيع» واوُ «مفعول»؛ لأنَّها زائدةٌ، فهي أَوْلَى بالحذف، وقال الأخفش: المحذوفُ عين الكلمة، وقال المازِريُّ: كلاهما حسنٌ، وقولُ الأخفش أقيس، وقيل: سُمِّيَ البيع بيعًا؛ لأنَّ البائع يمدُّ باعه إلى المشتري حالة العقد غالبًا، ورُدَّ هذا بأنَّه غلطٌ؛ لأنَّ (الباع) مِن ذوات الواو، و(البيع) مِن ذوات الياء.
          أَمَّا تفسيره شرعًا فهو مبادلةُ المالِ بالمال على سبيل التراضي.
          أَمَّا رُكنُهُ فالإيجاب والقبول.
          أَمَّا شَرطُهُ فأهليَّة المتعاقدَينِ.
          أَمَّا مَحلُّه فهو المال؛ لأنَّه ينبئ عنه شرعًا.
          أَمَّا حُكمُهُ فهو ثبوتُ الملكِ للمشتري في المَبيع، وللبائع في الثمن إذا كان تامًّا، وعند الإجازة إذا كان موقوفًا.
          أَمَّا حِكْمَتُه فهي كثيرةٌ:
          منها: اتِّساع أمورِ المَعاش والبقاء.
          ومنها: إطفاء نارِ المنازَعاتِ والنهب والسرقِ والطرِّ والخيانات والحيَل المكروهة.
          ومنها: بقاء نظام المعاش، وبقاء العالَمِ؛ لأنَّ المحتاج يَمِيلُ إلى ما في يد غيره، فبغير المعاملة يُفضي إلى التقاتل والتنازعِ، وفَناء العالَمِ، واختلاف نظام المعاش، وغير ذلك.
          وثبوته: بالكتاب لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:275] والسُّنَّة؛ وهي: أنَّ النَّبِيَّ صلعم بُعِثَ والناس يتعاملون، فأقرَّهم عليه، والإجماع مُنعَقِدٌ على شرعِيَّتِهِ.
          (ص) وقَوْلُ الله ╡ : {وَأَحَلَّ اللهِ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:275] وقوله: {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}[البقرة:282].
          (ش) (وَقَوْلُ اللهِ) بالرفع عطفًا على المضاف في (كتابُ البيوع) وقيل: ليس فيه واو العطف، وإِنَّما أصل النُّسَخة هكذا: (كتاب البيوع، قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهِ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}) وقد ذمَّ الله ╡ أَكَلَةَ الرِّبا بقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} أَوَّل الآية[البقرة:275]، وكانوا اعترضوا على أحكامِ الله تعالى في شَرعِهِ، فقالوا: إِنَّما البيع مثلُ الربا، فرَدَّ الله عليهم بقوله: {وَأَحَلَّ اللهِ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، وقال ابن كثيرٍ: قوله: {وَأَحَلَّ اللهِ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} يحتمل أن يكون مِن تمام كلامِهم اعتراضًا على الشَّرع؛ أي: هذا مثلُ هذا، وقد أحلَّ هذا وَحَرَّم هذا، ويحتمل أن يكون مِن كلام الله تعالى ردًّا عليهم، وقال الشَّافِعِيُّ: في قوله هذا أربعةُ أقوالٍ:
          أحدها: أنَّهُ عامَّة، فإنَّ لفظها لفظُ عمومٍ يتناول كلَّ بيعٍ، أو يقتضي إباحة جميعها إلَّا ما خَصَّه الدليل، قال في «الأمِّ»: وهذا أظهرُ معاني الآية الكريمة، وقال صاحب «الحاوي»: والدليل لهذا القولِ أنَّ النَّبِيَّ صلعم نهى عن بيوعٍ كانوا يعتادونها، ولم يبيِّن الجائز، فدلَّ على أنَّ الآية تناولت إباحة جميعِ البيوع إلَّا ما خُصَّ منها، وَبَيَّن صلعم المخصوص.
          القول الثاني: إنَّ الآية مجملةٌ لا يُعتَقَلُ منها صِحَّة بيعٍ مِن فساده إلَّا ببيانٍ مِن سيِّدنا رسول الله صلعم .
          القول الثالث: يتناولهما جميعًا، فيكون عمومًا دخله التخصيص، ومجملًا لحِقَه التفسير؛ لقيام الدلالة عليهما.
          القول الرابع: أنَّها تناولت بيعًا معهودًا، ونزلت بعد أنَّ أحلَّ النَّبِيُّ صلعم بيوعًا وَحَرَّم بيوعًا، فقوله: {أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} أي: البيع الذي بيَّنه صلعم مِن قَبلُ، وَعَرَفه المسلمون منه، فتناولت الآيةُ بيعًا معهودًا؛ ولهذا دخلت الألفُ واللامُ لأنَّهما للعهد، وأجمعت الأمَّة على أنَّ المبيع بيعًا صحيحًا يصيرُ بعد انقضاء الخيار ملكًا للمشتري، قال الغزاليُّ: أجمعت الأمَّة على أنَّ البيع سببٌ لإفادة المُلك.
          ثُمَّ إنَّ البُخَاريَّ ذكر هذه القطعة مِنَ الآية الكريمة التي أَوَّلها: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} إلى قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:275] إشارةً إلى أمورٍ؛ منها: أنَّ مشروعيَّة البيع بهذه، ومنها: أنَّ البيع سببٌ للمِلكِ، ومنها: أنَّ الرِّبا الذي يُعمَل بصورة البيع حرامٌ.
          قوله: (وَقَوْلُهُ: {إِلَّا أَن تَكُونَ...}) إلى آخره، عطف على قوله: (وَقَوْلِ اللهِ ╡ ) وهذه قطعةٌ مِن آية المداينة، وهي أطولُ آيةٍ في القرآن، أَوَّلها قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} وآخِرُها: {وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وقال الثعلبيُّ: أي: لكن إذا / كانت تجارة، وهو استثناءٌ منقطعٌ؛ أي: إلَّا التجارة فَإِنَّها ليست بباطلٍ، يعني: إذا كان البيع بالحاضر يدًا بيدٍ؛ فلا بأس بعدمِ الكتابة لانتفاء المحذورِ في تركها، وقرأ أهل الكوفة: {تِجَارَةً} بالنصب، وهو اختيار أبي عُبَيد، وقرأ الباقون بالرفع، واختاره أبو حاتم، وقال الزَّمَخْشَريُّ: قَرِئ: {تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ} بالرفع على «كان» التامَّة، وقيل: هي الناقصة على أنَّ الاسم {تِجَارَةٌ حَاضِرَة} والخبر {تُدِيرُونَهَا}، وبالنصب على: إلَّا أن تكون التجارةُ تجارةً حاضرة.
          قوله: ({حَاضِرَةً}) يعني: يدًا بيدٍ ({تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}) وليس فيها أجلٌ، أباح الله تركَ الكتابة فيها؛ لأنَّ ما يخاف مِنَ النَّساء والتأجيل يُؤمَن فيه، وأشار بهذه القطعة مِنَ الآية أيضًا إلى مشروعيَّة البيع بهذه، والله أعلم.