عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب فضائل المدينة
  
              

          (ص) ♫
          ░░29▒▒ باب فضائل المدينة.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان فضائل مدينة النَّبِيِّ صلعم ؛ لأنَّ (المدينة) إذا أُطلِقَت يتبادر إلى الفهم أنَّها المدينة التي هاجر إليها النَّبِيُّ صلعم ودُفِن بها، وإذا أُريد غيرُها فلا بدَّ مِن قيدٍ للتمييز، وذلك كـ(البيت) إذا أُطلِقَ يُراد به الكعبة، و(النجم) إذا أُطلِقَ يراد به الثريَّا.
          واشتقاقها مِن مَدَنَ بالمكان؛ إذا أقام به، وهي في مستوٍ من الأرض، لها نخيلٌ كثير، والغالب على أرضها السِّباخ، وعليها سورٌ مِن لَبِنٍ، وكان اسمها قبل ذلك يثرب، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ}[الأحزاب:13]، و(يَثْرِبُ) اسمٌ لموضعٍ منها، سمِّيت كلُّها به، وقيل: سُمِّيت بيثرب بن قانِئَة مِن ولد إرَمَ بن سام بن نوح؛ لأنَّه أَوَّل مَن نزلها، حكاه أبو عُبَيد البَكريُّ، وقال هشام بن الكلبيِّ: لمَّا أهلك الله قوم عادٍ تفرَّقت القبائل، فنزل قومٌ بِمَكَّةَ وقومٌ بالطائف، وسار يثرب بن هُذَيل بن إرَم وقومه فنزلوا موضع المدينة، فاستخرجوا العيون، وغرسوا النخيل، وأقاموا زمانًا، فأفسدوا فأهلكهم الله تعالى، ويبست النخيل وغارت العيون حَتَّى مرَّ بها تُبَّعٌ فبناها، واختلفوا فيها؛ فمنهم مَن يقول: إِنَّها مِن بلاد اليمن، ومنهم مَن يقول: إِنَّها مِن بلاد الشام، وقيل: إِنَّها عراقيَّة، وبينها وبين العراق أربعون يومًا، والأصحُّ أنَّها مِن بلاد اليمن؛ وذلك لأنَّها بناها تُبَّع الأكبر حين بُشِّر بمبعث النَّبِيِّ صلعم ، [وأُخبِر أنَّهُ إِنَّما يكون في مدينة يثرب، وكانت يثرب يومئذٍ صحراء فبناها لأجل النَّبِيِّ صلعم ]، وكتب بذلك عهدًا، وقال ابن إسحاق: لمَّا نزل تُبَّع المدينة نزل بوادي قناة وحفر فيه بئرًا، فهي إلى اليوم تُدعى بئر الملك، وذكر أيضًا أنَّ الدار / التي نزلها رسول الله صلعم هي الدار التي بناها تُبَّع لرسول الله صلعم ، وقال: ومِن يوم مات تُبَّع إلى مولد نبيِّنا صلعم ألف سنة، وقال الثعلبيُّ بإسناده إلى سهل بن سعدٍ ☺ قال: سمعتُ النَّبِيَّ صلعم يقول: لا تسبُّوا تُبَّعًا؛ فَإِنَّهُ كان قد أسلم، ويقال: كان سكَّان المدينة العماليق، ثُمَّ نزلها طائفةٌ مِن بني إسرائيل، قيل: أرسلهم موسى ◙ ، كما ذكره الزُّبَير بن بكَّار، ثُمَّ نزلها الأوس والخزرج لمَّا تفرَّق أهل سبأ بسبب سيل العَرِم، والأوس والخزرج أخوان، وأمُّهما قَيْلة بنت الأرقم بن عَمْرو بن جَفْنة، وهما الأنصار، منهم الأوسيُّون ومنهم الخزرجيُّون، وقد ذكرنا أنَّ اسم المدينة كان يثرب، فسمَّاها النَّبِيُّ صلعم طَيبة وطابة، ومِن أسمائها: العذراء، وجابرة، ومجبورة، والمُحِبَّة، والمحبوبة، والقاصِمة، قصمت الجبابرة، ولم تزل عزيزًا في الجاهليَّة، وأعزَّها الله بمهاجر رسول الله صلعم فمُنِعَت على الملوك مِن التبابِعة وغيرهم.