عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

سورة الحجر
  
              

          ░░░15▒▒▒ (ص) تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحِجْرِ.
          (ش) أي: هذا في بيان تفسير بعض (سورة الحِجر).
          وقال الطَّبَريُّ: هي مَكِّيَّةٌ بإجماع المفسِّرين، ويُرَدُّ عليه بقول الكَلبيِّ: إنَّ فيها آيةً مدنيَّةً، وقال السَّخاويُّ: نزلت بعد «يوسف» وقبل «الأنعام»، وهي ألفانِ وسبعُ مئة وستُّون حرفًا، وستُّ مئة وأربعٌ وخمسون كلمةً، وتسعٌ وتسعون آيةً.
          (ص) ♫
          (ش) لم تثبت البسملة إلَّا لأبي ذرٍّ عن المُسْتَمْلِي، ولهُ عن غيرِه بدونِ لفظ (تفسير).
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} الْحَقُّ يَرْجِعُ إِلَى الله، وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ.
          (ش) أي: قال مجاهدٌ في قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}[الحجر:41] معناه: (الْحَقُّ يَرْجِعُ إِلَى الله، وَعَلَيْهِ طَرِيقُهُ)، لا يُعرِّج على شيءٍ.
          وهذا التعليق رواه ابن أبي حاتمٍ عن حَجَّاج بن حمزة، عن شَبابة عن وَرْقاءَ عن ابن أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ، وعن الأخفش: معناه: عليَّ الدلالةُ على صراطٍ مستقيمٍ، وعن الكسائيِّ: هذا على الوعيد والتهديد؛ كقولك للرجل تخاصمُه وتهدِّده: طريقُك عليَّ.
          (ص) {وإنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ} عَلَى الطَّرِيقِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ}[الحجر:79] سقط هذا والذي قبله لأبي ذرٍّ إلَّا عن المُسْتَمْلِي.
          قوله: ({وَإنَّهُما}) يعني: مدينة قوم لوطٍ ◙ ومدينة أصحاب الأيكة ({لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ}) يعني: طريقٍ واضحٍ مُستبينٍ، وسُمِّيَ الطريق إمامًا لأنَّه يؤتمَُّ به.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَعَمْرُكَ} لَعَيْشُكَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الحجر:72] وفسَّر ({لَعَمْرُكَ}) بقوله: (لَعَيْشُكَ) ورواه ابن أبي حاتمٍ عن أبيه: حَدَّثَنَا أبو صالحٍ: حَدَّثَنَا معاوية عن عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عَبَّاسٍ، وفي «تفسير الثعلبيِّ»: {لَعمرُك} يا مُحَمَّد؛ يعني: وحياتك {إِنَّهُمْ} أي: إنَّ قومَ لوطٍ ◙ {لَفِي سَكْرَتِهِمْ} أي: ضلالتهم وحَيرَتِهم {يَعْمَهُونَ} أي: يتردَّدون، وعن مجاهدٍ وعن قتادة: يلعبون.
          (ص) {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أَنْكَرَهُمْ لُوطٌ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ. قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}[الحجر:61-62] لم يثبت هذا ولا الذي قبله في رواية أبي ذرٍّ، والمراد بـ(المرسلين) : الملائكة الذين جاؤوا أوَّلًا لإبراهيم ◙ ، وبشَّروه بغلامٍ يرزقُه الله إيَّاه على كِبَره، ولمَّا سألهم إبراهيم بقوله: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}[الحجر:57-58] أرادوا بهم قومَ لوطٍ، ثُمَّ لمَّا جاؤوا لوطًا أنكرهم، فقال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}[الحجر:62] يعني: لا أعرفُكم، وهو معنى قوله: (أَنْكَرَهُمْ لُوطٌ) يعني: ما عرَفَهم، وقصَّته مَشهورةٌ.
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: {كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أَجَلٌ.
          (ش) أي: قال غيرُ ابنِ عَبَّاسٍ في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا / كِتَابٌ مَّعْلُومٌ}[الحجر:4] أي: (أَجَلٌ)، وفي التفسير: أجلٌ مؤقَّتٌ قد كتبناه لهم، لا نعذِّبهم ولا نهلكهُم حَتَّى يبلغوه، وهكذا وقع في رواية أبي ذرٍّ ما ذكره البُخَاريُّ.
          (ص) {لَوْ مَا تَأْتِينَا} هَلَّا تَأْتِينَا.
          (ش) أشار به إلى قوله ╡ : {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الحجر:7] وفسَّر قوله: ({لَوْ مَا تَأْتِينَا}) بقوله: (هَلَّا تَأْتِينَا) والحاصل: أنَّ (لَوْ) هنا للتحضيض، قال الزَّمَخْشَريُّ: «لو» رُكِّبت مع «ما» و«لا» لمعنَيَين؛ معنى امتناعِ الشيء لوجودِ غيره، ومعنى التحضيض، وأَمَّا «هل» فلم تُركَّب إلَّا مع «لا» وحدها للتحضيض، والمعنى: هلَّا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك على إنذارِك.
          (ص) {شِيَعٌ} أُمَمٌ، وَلِلأَوْلِيَاءِ أيضًا: شِيَعٌ.
          (ش) أشار به إلى قوله ╡ : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ}[الحجر:10] [وفسَّر قوله: ({شِيَعِ}) بقوله: (أُمَمٌ)، وقال أبو عُبَيدة: {فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ}]: أي: في أمم الأوَّلين، [واحدتها: شيعة، وقال الثعلبيُّ: فيه إضمارٌ؛ تقديره: ولقد أرسلنا مِن قبلك رسلًا في شيع الأوَّلين]، وقال الحسن: فِرَق الأوَّلين، والشِّيعة: الفِرقة والطائفة مِنَ الناس.
          قوله: (وَلِلأَوْلِيَاءِ أيضًا: شِيَعٌ) أي: يقال لهم: شيَعٌ، وقال الطَّبَريُّ: ويقال لأولياءِ الرجل أيضًا: شيعةٌ.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {يُهْرَعُونَ} مُسْرِعِينِ.
          (ش) هذا ليس مِن هذه السورة، وإِنَّما هو مِن (سورة هود) وأشار به إلى قوله تعالى: {وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}[هود:78] وفسَّر ابن عَبَّاسٍ قوله تعالى: ({يُهْرَعُونَ}) بقوله: (مُسْرِعِينِ) وقد وصل هذا التعليقَ ابنُ أبي حاتمٍ من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ.
          قوله: ({وَجَاءهُ قَوْمُهُ}) أي: جاء لوطًا قومُه، وقد ذكرنا قصَّتَه في «تاريخنا الكبير».
          (ص) {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} لِلنَّاظِرِينَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}[الحجر:75] وفسَّر (المتوسِّمِينَ) بقوله: (لِلنَّاظِرِينَ) ويقال: للمتفرِّسين المتأمِّلين، وقال الزَّمَخْشَريُّ: حقيقة المتوسَّمين: النُّظَّار المتثبِّتون في نظرهم حَتَّى يعرفوا حقيقة سِمة الشيء، وقال قتادة: معناه: للمعتَبِرين، وقال مقاتلٌ: للمتفكِّرين.
          (ص) {سُكِّرَتْ} غُشِّيَتْ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {لَقَالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ}[الحجر:15] وفسَّر: ({سُكِّرَتْ}) بقوله: (غُشِّيَتْ) وكذا فسَّره أبو عُبَيْدةَ، وقال أبو عَمْرٍو: هو مأخوذٌ مِنَ السكر في الشراب، وعن ابن عَبَّاسٍ: {سُكِّرَتْ} أُخِذَت، وعن الحسن: سخرت، وعن الكلبيِّ: أُغشِيَت وعَمَت، وقيل: حُبِست ومُنِعت مِنَ النظر.
          (ص) {بُرُوجًا} مَنَازِلَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}[الحجر:16] وفسَّر: ({بُرُوجًا}) بقوله: (مَنَازِلَ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ)، وقال الثعلبيُّ: {بروجًا}؛ أي: قصورًا ومنازل، وهي كواكبٌ تنزلها الشمس والقمر وزحل والمشتري والمرِّيخ وعطارد والزهرة والكواكب السيَّارة، وأسماؤها: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، وقال مجاهدٌ: أراد بالبروج النجوم.
          (ص) {لَوَاقِحَ} مَلَاقِحَ مُلْقَحَةً.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء}[الحجر:22] وفسَّر: (اللَّواقِحَ) بقوله: (مَلَاقِحَ) ثُمَّ أشار بأنَّه جُمعُ (مُلْقَحَةٍ)، وتفسير (اللواقح) بالملاقح نادرٌ، وإِنَّما يقال: رياحٌ لواقحُ، ولا يقال: ملاقحُ، قال الجَوْهَريُّ: وهو مِن النوادر، ويقال: ألقح الفحلُ الناقةَ وألقح الريحُ السحابَ، وقال ابن مسعودٍ في هذه الآية: يرسل الله تعالى الريح فتحمل الماء، فتَمْري السحاب، فتدرِّي كما تدرِّي اللقحة، ثُمَّ تمطر، وقال الفَرَّاء: أراد بقوله: {لَوَاقِحَ} ذات لقح، كقول العرب: رجلٌ نابِلٌ ورامِحٌ وتامرٌ.
          (ص) {حَمَإٍ} جَمَاعَةُ حَمْأَةٍ؛ وهو الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ، وَالْمَسْنُونُ: الْمَصْبُوبِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}[الحجر:33] وذكر أنَّ ({حَمَإٍ}) جمع (حَمَأةٍ)، ثُمَّ فسَّرها بأنَّه (الطِّين المُتَغَيِّر)، وفسَّر (المَسْنُون) بقوله (المَصْبُوب) وهكذا فسَّره أبو عُبَيْدةَ، وعن ابن عَبَّاسٍ: «المسنون» التراب المبتلُّ المنتن، وأصله مِن قول العرب: سننتُ الحجرَ على الحجرِ؛ إذا حككتَه به، وما يخرج مِن بين الحجرين يقال له: السَّنين والسنانة، ومنه: المِسَنُّ.
          قوله: {مِن صَلْصَالٍ} وهو الطين اليابس إذا نقرتَه سمعتَ له صلصلةً؛ أي: صوتًا / مِن يُبسِه قبل أن تمسَّه النار، فإذا مسَّته النار فهو فخَّار، وعن مجاهدٍ: هو الطين المنتِن، واختاره الكسائيُّ، من صلَّ اللحمُ وأصلَّ؛ إذا أنتن.
          (ص) {تَوْجَلْ} تَخَفْ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ}[الحجر:53] وفسَّر ({تَوْجَلْ}) بقوله: (تَخَفْ) وأصله: {لَا تَوْجَلْ} وتفسيره: لا تخف، واشتقاقه مِن الوَجَل، وهو الخوف.
          قوله: [{قَالُوا} أي: قالت الملائكة لإبراهيم ◙ : {لَا تَوْجَلْ} إِنَّما قالوا ذلك حين دخلوا على إبراهيم]، قال إبراهيم ◙ : {إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ} أي: خائفون، ثُمَّ بشَّروه بغلامٍ آتاه الله له على كبره وكبر امرأته، وأراد بـ(الغلام) إسحاق.
          قوله: {عَلِيمٍ} أي: عليمٌ بالدِّين، وقيل: بالحكمة، وهذا الذي ذكره البُخَاريُّ لم يثبت في رواية أبي ذرٍّ.
          (ص) {دَابِرَ} آخِرَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ}[الحجر:66] وفسَّر: ({دَابِرَ}) بقوله: (آخِرَ) وهذا أيضًا لم يثبت في رواية أبي ذرٍّ.
          قوله: ({وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ}) أي: أوحينا إلى لوطٍ ◙ بأنَّ آخر ({هَؤُلَاءِ}) أي: قومه ({مَقْطُوعٌ}) أي: مستَأصَلٌ.
          قوله: ({مُصْبِحِينَ}) أي: حال كونهم في الصبح.
          (ص) {الصَّيْحَةُ} الْهَلَكَةُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ}[الحجر:73] وفسَّر: ({الصَّيْحَةُ}) بالهلكة، وهكذا فسَّر أبو عُبَيْدةَ.
          قوله: {مَشْرِقَيْنِ} أي: حين أشرقت الشمس عليهم، وهم قوم لوطٍ ◙ .