عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

سورة هود
  
              

          ░░░11▒▒▒ (ص) سورة هُودٍ ◙ .
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة هود) قال أبو العَبَّاس في «المقامات»: فيها آيةٌ مدنيَّةٌ، وقال بعضهم: آيتان، قال السُّدِّيَّ: قال ابن عَبَّاسٍ: سورة هود مكِّيَّةُ غير قوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية[هود:114]، وقال القرطبيُّ عن ابن عَبَّاس: هي مكِّيَّةٌ مطلقًا، وبه قال الحسن وعِكرمة ومجاهدٌ وجابر بن زيدٍ وقتادة، وعنه: هي مكِّيَّةٌ إلَّا آيةً واحدةً وهي {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}[هود:12] رواها عنه عليُّ بن أبي طلحة، وقال مقاتلٌ: مكِّيَّة إلَّا آيتين: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} و{أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}[هود:17] نزلت في ابن سلام وأصحابه، وهي سبعةُ آلافٍ وخمسُ مئةٍ وسبعةٌ وستُّون حرفًا، وألفٌ وتسعُ مئةٍ وخمس عشرة كلمةً، ومئةٌ وثلاثٌ وعشرون آيةً.
          (ص) ♫
          (ش) لم تثبت البسملة إلَّا لأبي ذرٍّ.
          (ص) قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {عَصِيبٌ} شَدِيدٌ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: ({وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}) [هود:77] وفسَّره بقوله: (شَدِيدٌ) ووصله ابن أبي حاتمٍ مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ قال في قوله: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} قال: شديد، القائل بهذا لوطٌ ◙ حين جاءته الملائكة في صورة مردان، فجاء بهم منزله وحسب أنَّهم أنسٌ، فخاف عليهم مِن قومه ولم يعلم بذلك أحدٌ، فخرجت امرأته فأخبرت به قومها، فقال: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}[هود:77]: أي: شديدٌ عليَّ، وقصَّته مشهورةٌ.
          (ص) {لَا جَرَمَ} بَلَى.
          (ش) أشار به إلى قوله: ({لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}) [هود:22] وفسَّره بقوله: (بلى)، قال بعضهم: وصله ابن أبي حاتمٍ من طريق عليِّ / بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: {لَا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ}[النحل:23] قال: أي: بلى إنَّ الله يعلم.
          قُلْت: الذي ذكره البُخَاريُّ في هذه السورة _أعني (سورة هود) _ الذي نقله هو ليس في (سورة هود) وإِنَّما هو في (سورة النحل)، وكان المناسب أن يذكر ما في (سورة هود) ؛ لأنَّه في صدد تفسير (سورة هود) وإن كان المعنى في الموضعين سواء، واعلم أنَّ الفَرَّاء قال: {لَا جَرَمَ} كلمةٌ كانت في الأصل بمنزلة «لا بدَّ» و«لا محالة» فجرت على ذلك وكثرت حَتَّى تحوَّلت إلى معنى القسم وصارت بمنزلة: (حقًّا)، فلذلك يُجاب عنه باللام، كما يُجاب بها عن القسم، ألا تَرَاهم يقولون: لا جرم لآتينَّك، ويقال: (جرم) فعلٌ عند البَصْريِّين، واسمٌ عند الكوفيِّين، فإذا كان اسمًا يكون بمعنى (حقًّا)، ومعنى الآية: حقًّا إنَّهم في الآخرة هم الأخسرون، وعلى قول البَصْريِّين: {لا} ردٌّ لقول الكفَّار، و{جَرَمَ} معناه عندهم: كسب، أي: كسب كفرهم الخسارة في الآخرة.
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: {حَاقَ} نَزَلَ، وَيَحِيقُ: يَنْزِلُ.
          (ش) أي: قال غير ابن عَبَّاس: معنى ({حَاقَ}) في قوله: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[النحل:34] (نَزَلَ) بهم وأصابهم، قاله أبو عُبَيْدةَ، وإِنَّما ذكر: (يَحِيْق) إشارةً إلى أنَّهُ مِن (فَعَل يَفْعِل) بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع.
          (ص) (يَؤُوسٌ) (فَعُولٌ) مِنْ يَئِسْتُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}) [هود:9] وأشار إلى أنَّ وزنه (فَعُولٌ)، مِن صِيَغ المبالغة، وأنَّه مشتقٌّ (مِنْ يَئِسْتُ) مِن اليأس، وهو انقطاع الرجاء، وفي قوله: (مِنْ يَئِسْتُ) تساهلٌ؛ لأنَّه مشتقٌّ مِنَ اليأس، كما تقتضيه القواعد الصرفيَّة.
          (ص) قَالَ مُجَاهِدٌ: {تَبْتَئِسْ} تَحْزَنْ.
          (ش) أشار به إلى أنَّ مجاهدًا فسَّر قوله: ({تَبْتَئِس}) بقوله: (تَحْزَن) في قوله تعالى: {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[هود:36] والخطاب لنوحٍ ◙ ، ووصل هذا الطَّبَريُّ مِن طريق ابن أبي نَجِيحٍ عن مجاهدٍ.
          (ص) {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} شَكٌّ وَامْتِرَاءٌ فِي الْحَقِّ {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} مِنَ اللهِ إِنِ اسْتَطَاعُوا.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: ({أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ [لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ}) الآية[هود:5] وهو تفسير مجاهدٍ أيضًا، فإنَّه قال: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ}] شكٌ وامتراءٌ في الحقِّ.
          قوله: ({يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ}) مِن الثَّنْيِ، ويعبَّر به عن الشَّكِّ في الحقِّ والإعراض عنه، قال الزَّمَخْشَريُّ: يزْوَرُّونَ عن الحقِّ وينحرفون عنه؛ لأنَّ مَن أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومَن ازورَّ عنه وانحرف؛ ثنى عنه صدره وطوى عنه كَشْحَه، ويقال: هذه نزلت في الأخنس بن شَرِيق، وكان حلوَ الكلام حلوَ المنطق، يلقى النَّبِيَّ صلعم بما يحبُّ، وينطوي له على ما يكره، وقيل: نزلت في بعض المنافقين، وقيل: في بعض المشركين، كان صلعم إذا مرَّ عليه يثني صدرَه ويُطأطئ رأسَه؛ كيلا يراه، فأخبر الله تعالى نبيَّه صلعم بما ينطوي عليه صدورُهم، ويثنون يكتمون ما فيها مِن العداوة.
          قوله: ({لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ}) أي: مِنَ الله، وقيل: مِنَ الرسول، وهو مِنَ القرآن.
          وقوله: (إِنِ اسْتَطَاعُوا) ليس مِنَ القرآن، والتفاسير المذكورة إلى هنا وقعت في رواية أبي ذرٍّ، وعند غيره وقعت مؤخَّرةً، والله أعلم، ويأتي الكلام فيه عن قريب مستقصًى.
          (ص) وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: الأَوَّاهُ الرَّحِيمُ بِالْحَبَشِيَّةِ.
          (ش) لم يقع هذا هنا في رواية أبي ذرٍّ، وقد تَقَدَّمَ في ترجمة (إبراهيم ◙ ) في (أحاديث الأنبياء ‰ ).
          و(أَبُو مَيْسَرَةَ) ضدُّ (الميمنة)، اسمه عَمْرو بن شُرَحْبِيل الهمدانيُّ التَّابِعِيُّ الكوفيُّ، روى عنه مثلُ الشعبيِّ وأبو إسحاق السَّبِيعيُّ، وأشار بقوله: (الأَوَّاهُ) إلى قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود:75].
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بَادِئَ الرَّأْيِ} مَا ظَهَرَ لَنَا.
          (ش) أي: قال عبد الله بن عَبَّاسٍ في تفسير قوله تعالى: {هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِئَ الرَّأْيِ} الآيَةَ[هود:27]، وفسَّر قوله: ({بَادِئَ الرَّأْيِ}) بقوله: (مَا ظَهَرَ لَنَا)، وهذا التعليق رواه أبو مُحَمَّد عن العَبَّاس بن الوليد بن مَزيد: أخبرني مُحَمَّد بن شُعَيْبٍ: أخبرني عثمان بن عطاءٍ عن أبيه، عن ابن عَبَّاسٍ.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْجُودِيُّ جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}[هود:44] أي: / استوت سفينة نوحٍ ◙ على الجوديِّ، وهو جبلٌ بالجزيرة، تشامَت الجبال يومئذٍ وتطاولت، وتواضع الجوديُّ لله ╡ فلم يغرق، فأُرْسِيت عليه السفينة، وقيل: إنَّ الجوديَّ جبلٌ بالموصل، وقيل: بآمِد، وهما مِنَ الجزيرة، وقال: أكرَمَ اللهُ ╡ ثلاثة جبالٍ بثلاثة أنبياء ╫ ، حِرَاءَ بمُحَمَّدٍ صلعم ، والجوديَّ بنوحٍ ◙ ، والطورَ بموسى ◙ .
          (ص) وَقَالَ الْحَسَنُ: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ} يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ.
          (ش) أي: قال الحسن البَصْريُّ في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[هود:87] في قصَّة شُعَيْب ◙ ، قال الحسن: إِنَّما قال قومُه ذلك استهزاءً به، وهذا التعليق رواه أبو مُحَمَّد عن المنذر بن شاذان، عن زكريَّا بن عَدِيٍّ، عن أبي المليحٍ، عن الحسن.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَقْلِعِي} أَمْسِكِي.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي}[هود:44] وروى أبو مُحَمَّد عن أبيه عن أبي صالحٍ: حَدَّثَنَا معاوية عن عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عَبَّاسٍ.
          (ص) {وَفَارَ التَّنُّورُ} نَبَعَ الْمَاءُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ}[هود:40] وهذا أيضًا رواه عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ.
          قوله: ({فَارَ}) مِنَ الفَوْر؛ وهو الغليان، والفوَّارة: ما يفور مِن القِدْر، وقال ابن دُرَيدٍ: {التنُّور} اسم فارسيٌّ معرَّبٌ، لا تعرف له العربُ اسمًا غيرَه، فلذلك جاء في التنزيل؛ لأنَّهم خوطبوا بما عرفوه، واختلفوا في موضعه، فقال مجاهدٌ: كان ذلك في ناحية الكوفة، وقال: اتَّخذ نوحٌ ◙ السفينةَ في جوف مسجد الكوفة وكان التنُّور على يمين الداخل مِمَّا يلي كندة، وبه قال عليٌّ وزِرُّ بن حُبَيش، وقال مقاتلٌ: كان تنُّور آدم ◙ ، وإِنَّما كان بالشام بموضعٍ يقال له: عين وردة، وعن عِكْرِمَة: فار التنُّور بالهند.
          (ص) وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَجْهُ الأَرْضِ.
          (ش) أي: قال عِكْرِمَة مولى ابن عَبَّاس: التنُّور: اسمٌ لوجه الأرض، وذكروا فيه ستَّة أقوالٍ؛ أحدها: هذا، والثاني: اسمٌ لأعلى وجه الأرض، والثالث: تنوير الصبح، من قولهم: نوَّر الصبحُ تنويرًا، والرابع: طلوع الشمس، والخامس: هو الموضع الذي يجتمع فيه ماء السفينة، فإذا فار منه الماء؛ كان ذلك علامةً لنوح ◙ لركوب السفينة، والسادس: ما ذكره البُخَاريُّ.