عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

أبواب صدقة الفطر
  
              

          ░░24م▒▒ (ص) أَبْوَاب صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
          (ش) أي: هذه أَبْوَاب صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وفِي بَعْضِ النُّسَخ: <صَدَقَة الْفِطْرِ> بدون قوله: (أبواب) والتقدير فيه أَيْضًا: أَبْوَاب صَدَقَةِ الْفِطْرِ، أو: بَاب صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وإضافة (الصدقة) إلى (الفطر) [مِن إضافة الشيء إلى شرطه؛ كَحجَّة الإِسْلَام، وقيل: أُضيفت الصدقة إلى الفطر] لكونها تجب بالفطر مِن رمضان، وقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمُرَاد بصَدَقَة الْفِطْرِ صدقة النفوس، مأخوذ مِنَ الفِطْرة الَّتِي هي أصل الخِلقة، والأَوَّل أظهر، ويؤيِّده قوله صلعم في بعض طُرُق الحديث: «زكاة الفطر مِن رمضان».
          ثُمَّ اعلم أنَّ هَذَا الْبَاب يحتاج إلى خمسَ عَشْرةَ معرفةً:
          الأولى: معرفة صَدَقَة الْفِطْرِ لغةً وشرعًا، فقَالَ النَّوَوِيُّ: هي لفظة مولَّدة لا عربيَّة ولا معرَّبة بل هي اصطلاحيَّةٌ للفقهاء، كأنَّها مِنَ الفِطرة الَّتِي هي النفوس والخِلقة؛ أي: زكاة الخِلقة، ذكرها صاحب «الحاوي»، والمنذريُّ.
          قُلْت: ولو قيل: لفظةٌ إسلاميَّة؛ كان أَوْلَى؛ لأنَّها ما عُرِفَت إلَّا في الإِسْلَام، ويؤيِّد هذا ما ذكره ابْن الْعَرَبِيِّ: هو اسمها على لسان صاحب الشرع، ويقال لها: صَدَقَة الْفِطْرِ، وزكاة الفطر، وزكاة رمضان، وزكاة الصوم، وفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاس: «صدقة الصوم»، وفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «صدقة رمضان»، وتُسمَّى أَيْضًا صدقة الرؤوس، وزكاة الأبدان سمَّاها الإمام مَالِك ☼ ، أَمَّا شرعًا فَإِنَّها اسمٌ لِما يعطى مِنَ المال بطريق الصِّلة ترحُّمًا مُقَدَّرًا، بخلاف الهبة فَإِنَّها تُعطى صلةً تكرُّمًا لا ترحُّمًا، ذكره في «المحيط».
          الثانية: معرفة وجوبها؛ فبأحاديث الباب على ما سيأتي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
          الثالثة: معرفة سبب وجوبها؛ فهو رأسٌ يَمُونُه مؤنةً تامَّة، ويلي عليه ولايةً تامَّةً؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «عمَّن تمونون».
          الرابعة: معرفة شرط وجوبها؛ فالإِسْلَام والحُرِّيَّة والغنى، على ما يأتي بالخلافِ فيه.
          الْخَامِسة: معرفة ركنها؛ فالتمليك.
          السَّادِسة: معرفة شرط جوازها؛ بكون المصروف إليه فقيرًا.
          السَّابِعة: معرفة مَن تجب عليه؛ فتجب على الأب عن أولاده الصغار الفقراء، وعلى السيِّد عن عبده ومُدبَّرِه ومُدبَّرتِه وأمِّ ولده.
          الثَّامِنة: معرفة الَّذِي تجب مِن أجله؛ فأولاده الصغار ومماليكه للخدمة دون مكاتبه وزوجته. /
          التَّاسِعة: معرفة مقدار الواجب فيها؛ فنصف صاعٍ [مِن بُرٍّ، أو صاعٍ مِن شعير، أو تَمرٍ، على ما يأتي بيانُه إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى].
          العاشرة: معرفة الكيل الَّذِي تجب به؛ فهو الصاع، وسنذكر الاختلاف فيه.
          الحادية عَشْرَةَ: معرفة وقت وجوبها؛ فوقت طلوع الفجر الثَّانِي مِن يوم الفطر، وفيه الخلاف على ما يأتي بيانه إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
          الثانية عَشْرَةَ: معرفة كيفيَّة وجوبها؛ فتجب وجوبًا موسَّعًا على الأصحِّ.
          الثالثة عَشْرَةَ: معرفة وقت استحباب أدائها؛ فقد اتفقت الأئِمَّة الأَرْبَعَة في استحباب أدائها بعد فجر يوم الفطر، قبل الذهاب إلى صلاة العيد.
          الرابعة عَشْرَةَ: معرفة جواز تقديمها على يوم الفطر؛ فعند أَبِي حَنِيفَةَ: يجوز تقديمها لسنة وسنتين، وعن خلف بن أَيُّوب: يجوز لشهرٍ، وقيل: بيومٍ أو يومين.
          الْخَامِسة عَشْرَةَ: معرفة وقت أدائها؛ فيوم الفطر مِن أوَّله إِلَى آخِرِهِ، وبعده يجب القضاء عند بعض أصحابنا، والأصحُّ أنَّه يكون أداءً.
          70-(ص) باب فَرْضِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ.
          (ش) أي: هذا باب بيان فرض صَدَقَة الْفِطْرِ، وفِي بَعْضِ النُّسَخ: هذا المقدار موجودٌ، وما قبله غير موجود إلَّا فِي رِوَايَة المُسْتَمْلِي.
          (ص) وَرَأَى أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَرِيضَةً.
          (ش) (أَبُو الْعَالِيَةِ) مِنَ العُلوِّ على وزن (فاعلة)، اسمه رُفيع بن مِهْرَان الرَّياحيُّ، بالْيَاء آخِر الْحُرُوفِ، و(عَطَاءٌ) ابن أَبِي رَبَاحٍ، و(ابْنُ سِيرِينَ) هو مُحَمَّد بْن سِيرِينَ.
          قوله: (وَرَأَى) ويروى: <وروي عن أَبِي الْعَالِيَةِ>.
          فتعليق أَبِي الْعَالِيَةِ وابْن سِيرِينَ [رَوَاهُ ابن أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه» عَنْ وَكِيع عن عاصم عن أَبِي الْعَالِيَةِ وابْن سِيرِينَ] أنَّهما قالا: صَدَقَة الْفِطْرِ فريضة، وتعليق عَطَاءٍ وصله عَبْد الرَّزَّاقِ عن ابْن جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءَ.
          ثُمَّ اعلم أنَّ العلماء اختلفوا في صَدَقَة الْفِطْرِ؛ هل هي فرضٌ، أو واجبة، أو سُنَّة، أو فعلُ خيرٍ مندوبٌ إليه؟ فقالت طائفة: هي فرضٌ، وهم الثَّلَاثَة المذكورون هنا والشَّافِعِيُّ ومَالِكٌ وأَحْمَد، وقال أصحابنا: هي واجبة، وقالت طائفة: هي سُنَّةٌ، وَهُو قَولُ مَالِك فِي رِوَايَةٍ ذكرها صاحب «الذخيرة»، وَقالَ بَعْضُهُمْ: هي فعلُ خيرٍ، قد كانت واجبة، ثُمَّ نُسِخَت، واستدلُّوا على هذا بحديث قيس بن سَعْد بْن عبادة: قال: (أمَرَنا النَّبِيُّ صلعم بصَدَقَة الْفِطْرِ قبل أن تنزل الزكاة، فلمَّا نزلت لم يأمرنا ولم ينْهَنا، ونحن نفعله)، رَوَاهُ النَّسائيُّ وابْن ماجه والْحَاكِم في «المستدرك» مِنْ رِوَايَة أبي عمَّار الْهَمَدَانِيِّ عن قيس، واسم أبي عمَّار عُرَيب بْن حُمَيْد، كوفيٌّ ثقةٌ، قاله أَحْمَد وابْن مَعِين، وبحديث قيس بْن سَعْدٍ أَيْضًا مِن وجهٍ آخر أَخْرَجَهُ الْحَاكِم مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِم بن مخيمرة عَنْ عَمْرو بن شُرَحْبِيل عن قيس بن سَعْد بْن عبادة، قال: (كنَّا نصوم عاشوراء ونؤدِّي صَدَقَة الْفِطْرِ، فلمَّا نزل رمضان، ونزلت الزكاة؛ لم نُؤمَر به ولم نُنه عنه، ونحن نفعله)، وقال: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وقال البَيْهَقيُّ: إنَّ هذا لا يدلُّ على سقوط فرضها؛ لأنَّ نزول فرضٍ لا يوجب سقوطَ آخَرَ، وقد أجمع أهلُ العلم على وجوب زكاة الفطر وإن اختلفوا في تسميتها فرضًا، فلا يجوز تركها، وقد نقل ابْن الْمُنْذِرِ الإجماعَ على فرضيَّة صَدَقَة الْفِطْرِ.
          [قُلْت: فيه نظرٌ؛ لِمَا ذكرنا مِنَ الاختلاف فيها].