عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

{عبس}
  
              

          ░░░80▒▒▒ (ص) سُورَةُ عَبَسَ.
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة عَبَسَ) وتُسمَّى (سورةَ السَّفَرة)، وهي مَكِّيَّةٌ، وهي خمس مئةٍ وثلاثةٌ وثلاثون حرفًا، ومئةٌ وثلاثٌ وثلاثون كلمةً، واثنتان وأربعون آيةً، وذكر السخاويُّ: أنَّها نزلت قبل «سورة القدر» وبعد «سورة النجم»، وذكر الحاكم مصحَّحًا عن عائشة: أنَّها نزلت في ابن أمِّ مكتومٍ الأعمى، أتى رسول الله صلعم فجعل يقول: يا رسول الله؛ أرشدني، وعند رسول الله صلعم رجالٌ مِن عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلعم يُعرِض عنه، ويُقبِل على الآخرين... الحديث.
          (ص) ♫
          (ش) لم تثبت البسملة إلَّا لأبي ذرٍّ. /
          (ص) {عَبَسَ} كَلَحَ وَأعْرَضَ.
          (ش) تفسير: ({عَبَسَ}) بقوله: (كَلَحَ) فهو لأبي عبيدة، وتفسيره بـ(أَعْرَضَ) لغيره، ولم يختلف السلفُ أنَّ فاعل {عَبَسَ} هو النَّبِيُّ صلعم ، وأغرب الداودي فقال: هو الكافر الذي كان مع رسول الله صلعم ، انتهى، قيل: كان هذا أُبيَّ بن خلفٍ، رواه عبد الرَّزَّاق عن معمرٍ عن قتادة، وقيل: أميَّة بن خلفٍ، رواه سعيد بن منصورٍ، وروى ابن مردويه مِن حديث عائشة: أنَّهُ كان يخاطب عتبة وشيبة ابني ربيعة، وروي مِن وجهٍ آخرَ عن عائشة: أنَّهُ كان في مجلسٍ فيه ناسٌ مِن وجوه المشركين فيهم أبو جهلٍ وعتبة، فهذا يجمع الأقوال.
          (ص) {مُطَهَّرَةٍ} لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ وَالصُّحُفَ مُطَهَّرَةً؛ لأنَّ الصُّحُفَ يَقَعُ عَلَيْهَا التَّطْهِيرُ، فَجُعِلَ التَّطْهِيرُ لِمَنْ حَمَلَهَا أَيْضًا.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ. مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:13-16] وفسَّر (المُطهَّرَة) بقوله: (لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ) يعني: لمَّا كانت الصحف تتَّصف بالتطهير وصف أيضًا حاملها _أي: الملائكة_ به، فقيل: لا يمسُّها إلَّا المطهَّرون، وهذا كما في: (المُدبِّرات أمرًا) فإنَّ التدبير لِمحمولِ خيولِ الغزاة، فوصف الحامل _يعني: الخيول_ به، فقيل: {فَالْمُدَبِّرَاتِ}، وقال الكَرْمَانِيُّ: وفي بعض النُّسَخ: «لا يقع» بزيادة: «لا» وفي توجيهه تكلُّفٌ.
          قُلْت: وجهه: أنَّ الصحف لا يُطلَق عليها التطهير الذي هو خلاف التنجيس حقيقةً، وإِنَّما المراد: أنَّها مُطهَّرةٌ عن أن ينالها أيدي الكفَّار، وقيل: مطهَّرةٌ عمَّا ليس بكلام الله، فهو الوحي الخالص والحقُّ المحض.
          وقوله: ({مُطَهَّرَةً}) في رواية غير أبي ذرٍّ والنَّسَفِيِّ: <وَقَالَ غيرهُ: {مُطَهَّرةً}> وهذا يقتضي تَقَدُّمَ أحدٍ قبله حَتَّى يصحَّ (وقال غيره)، والظاهر أنَّ في أَوَّل تفسير (عبس) : (وقال مُجاهدٌ: {عَبَسَ} كَلَحَ) ثُمَّ قال: (وقال غيره) أي: غير مجاهدٍ.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الغُلْبُ: المُلْتَفَّةُ، وَالأَبُّ: مَا يَأْكُلُ الأنْعَامُ.
          (ش) أي: قال مُجاهدٌ في قوله تعالى: {وَنَخْلًا. وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} وقال: (الغُلْبُ: المُلْتَفَّةُ) مِنَ الالتفاف، (وَالأَبُّ) بالتشديد: (مَا يَأْكُلُ الأنْعَامُ)، وهو الكلأ والمرعى، وعن الحسن: هي الحشيش، وما تأكله الدوابُّ ولا يأكله الناس، وقال الثَّعْلَبيُّ: الغُلب غِلاظ الأشجار، واحده: أغلب، ومنه قيل: للغليظِ الرَّقبةِ: الأغلب، وعن قتادة: الغُلْب: النخل الكرام، وعن ابن زيدٍ: عظام الجذوع، وهذا لم يثبت إلَّا للنَّسَفِيِّ.
          (ص) {سَفَرَةٍ} الْمَلَائِكَةُ، وَاحِدُهُمْ: سَافِرٌ، سَفَرْتُ: أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ، وَجُعِلَتِ الْمَلَائِكَةُ إِذَا نَزَلَتْ بِوَحْيِ الله تَعَالَى وَتَأْدِيَتِهِ، كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ الْقَوْمِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي: بأيدي الملائكة.
          قوله: (وَاحِدُهُمْ) أي: واحد (السَّفرة) (سَافِرٌ)، وعن قتادة: واحدُهم: سفيرٌ، وإِنَّما ذكره بواو الجماعة باعتبار الملائكة.
          قوله: (سَفَرْتُ) إشارةٌ إلى أنَّ معنى (سافِرٍ) مَن سَفَرْتٌ، بمعنى: (أَصْلَحْتُ بَيْنَهُم)، ومنه: السفير، وهو الرسول، وسفير القوم: هو الذي يسعى بينهم بالصُّلح، وسفرتُ بين القوم: إذا أصلحتَ بينهم، وعن ابن عَبَّاسٍ ومقاتلٍ: {سَفَرة} كَتَبة، وهم الملائكة الكرام الكاتبون، ومنه قيل للكتاب: سفرٌ، وجمعه: أسفار، ويقال للوَرَّاق: سفر بلغة العبرانيَّة.
          قوله: (وَتَأْدِيَتِهِ) مِنَ الأداء؛ أي: وتبليغه، ويروى: <وتأديبه> مِنَ الأدب، لا مِنَ الأداء، قاله الكَرْمَانِيُّ، وفيه ما فيه.
          (ص) {تَصَدَّى} تَغَافَلَ عَنْهُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى} وفسَّره بقوله: (تَغَافَلَ) وأصله: تتغافل عنه، وكذلك أصل (تصدَّى) : تتصدَّى، فحُذِفَت إحدى التاءين، وقال الزَّمَخْشَريُّ: أي: تتعرَّض له بالإقبال عليه، وهذا هو المناسب المشهور، وقال صاحب «التلويح»: في أكثر النُّسَخ «{تَصَدَّى} تغافل عنه»، والذي في غيرها: «{تَصدَّى} أقبل عليه» وكأنَّه الصواب، وعليه أكثر المفسِّرين، ووقع في رواية النَّسَفِيِّ: <وقال غيره: {تَصدَّى} تغافل> وهذا يقتضي تَقَدُّمَ ذكر أحدٍ قبله حَتَّى يستقيم أن يقال: (وقال غيره).
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَمَّا يَقْضِ} لَا يَقْضِي أَحَدٌ مَا أُمِرَ بِهِ.
          (ش) أي: قال مُجاهدٌ في قوله تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} وتفسيره ظاهرٌ، / و(أُمِرَ) على صيغة المجهول، ورواه عبدٌ عن شَبابَة، عن ورقاء عن ابن أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ، ولفظه: (لا يقضي أحدٌ أبدًا ما افتُرِض عليه).
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {تَرْهَقُهَا} تَغْشَاهَا شِدَّةٌ.
          (ش) أي: قال ابن عَبَّاسٍ في قوله تعالى: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (تَغْشَاهَا شِدَّةٌ)، ورواه ابنُ أبي حاتمٍ مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه به، وقيل: يصيبها ظلمةٌ وذِلةٌ وكآبةٌ وكسوفٌ وسوادٌ، وعن ابن زيدٍ: الفرق بين «الغبرة» و«القترة»: أنَّ الغبرة: ما ارتفع مِنَ الغبار فلحق بالسماء، والقَتَرة: ما كان أسفل في الأرض.
          (ص) {مُسْفِرَةٌ} مُشْرِقَةٌ.
          (ش) كذا فسَّره ابن عَبَّاسٍ، رواه ابنُ أبي حاتمٍ مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه.
          (ص) {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَتَبَةٍ. {أَسْفَارًا} كُتُبًا.
          (ش) قد مرَّ الكلام فيه عن قريبٍ، وهو مِن وجهٍ مكرَّرٌ.
          (ص) {تَلَهَّى} تَشَاغَلَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} أصله: تتلهَّى؛ أي: (تَشَاغَلَ) أصله: تتشاغل، حُذِفَت التاء منهما، وقال الثَّعْلَبيُّ: أي: تُعرِض وتتغافل عنه وتتشاغل بغيره.
          (ص) يُقَالُ وَاحِدُ (الأَسْفَارِ) : سِفْرٌ.
          (ش) سقط هذا لأبي ذرٍّ، و(الأسفار) جاء في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}[الجمعة:5] ذكره استطرادًا، وهو جمع (سِفْرٍ) بكسر السين، وهو الكتاب، وقد مر عن قريبٍ.
          (ص) {فَأقْبَرَهُ} يُقالُ: أقْبَرتُ الرَّجُلَ: جَعَلْتُ لَهُ قَبْرًا، وَقَبَرْتُهُ: دَفَنْتُهُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس:21].
          قوله: (يُقَالُ...) إلى آخره: ظاهرٌ، وقال الفَرَّاء: أي جعله مقبورًا، ولم يقل: قَبَرَه؛ لأنَّ القابر هو الدافنُ، وقال أبو عبيدة: {فأقبره} أخبر بأن يُقبَر، جعل له قبرًا، والذي يَدفِن بيده هو القابر.