عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

كتاب الإكراه
  
              

          ░░89▒▒ كِتَابُ الإِكْرَاهِ.
          (ص) ♫
          (ش) أي: هذا كتابٌ في بيان حكم الإكراه.
          و(الإِكْرَاهُ) بكسر الهمزة، وهو إلزام الغير بما لا يريده، وهو يختلف باختلاف المُكره والمكرَه عليه والمكرَه به.
          (ص) وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:106].
          (ش) (وَقَوْلِ اللهِ) ╡ ، بالجرِّ، عطفٌ على لفظ (الإكراه)، وهذه الآية الكريمة في (سورة النحل) وأوَّلها: {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ}... الآية، واختلف النحاة في العامل في قوله: {مَنْ كَفَرَ} وفي {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} فقالت نحاة الكوفة: جوابهما واحدٌ في قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} لأنَّهما جُزءانِ اجتمعا، أحدهما منعقدٌ بالآخر، فجوابهما واحدُ؛ كقول القائل: مَن يأتِنا مَن يُحسِن نُكرِمه؛ يعني: مَن يُحسن ممَّن يأتينا نُكرِمه، وقالت نحاة البصرة: قوله: {مَنْ كَفَرَ} مرفوعٌ بالردِّ على {الَّذِينَ} في قوله: {إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ} الآية، ومعنى الكلام: إِنَّما يفتري الكذب مَن كفر بالله مِن بعد إيمانه، ثُمَّ استثنى {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإِيمَانِ}، وقال ابن عَبَّاس: نزلت هذه الآية في عمَّار بن ياسرٍ؛ لأنَّ الكفَّار أخذوه وقالوا له: اكفر بمُحَمَّدٍ، فطاوعهم على ذلك وقلبُه كارهٌ ذلك مطمئنٌّ بالإيمان، ثُمَّ جاء إلى رسول الله صلعم وهو يبكي، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
          قوله: ({مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}) أي: طاب نفسُه بذلك، وأتى به على اختيارٍ وقبولٍ.
          (ص) وَقَالَ: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}[آل عِمْرَان:28] وَهْيَ تَقِيَّةٌ.
          (ش) هذا مِن آيةٍ أوَّلها: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمنِيِنَ وَمَنْ يفعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهًمْ تُقَاةً}[آل عِمْرَان:28] أي: تقيَّة، وكلاهما بمعنًى واحدِ، أشار إليه البُخَاريُّ بقوله: (وَهِيَ تَقِيَّةٌ) والمعنى: إلَّا أن تتَّقوا منهم تقيَّةً، وهي الحذر عن إظهار ما في الضمير مِنَ العقيدة ونحوها عند الناس.
          (ص) وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ}[النساء:97] إِلَى قَوْلِهِ: / {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[النساء:75].
          [(ش) أي: وقال الله ╡ : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} إلى آخره، هكذا وقع في بعض النُّسَخ وفيه تغييرٌ؛ لأنَّ قوله: {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} إلى قوله {فِي الأَرْضِ} مِن آيةٍ، وتمامها: {قَالْوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97]، وقوله: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}] مِن آيةٍ أخرى متقدِّمةٍ على الآية المذكورة، وأوَّلها هو قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[النساء:75] والصحيح هو الذي وقع في بعض النُّسَخ، ونُسِبَ إلى أبي ذرٍّ، وهو: <{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأَرْضِ} إلى قوله: {عَفُوًّا غَفُورًا} وقال: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[النساء:75]> هاتان آيتان؛ الأولى هو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} إلى قوله: {عَفُوًّا غَفُورًا} وهي أيضًا آيتان، الثانية: قوله {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ} إلى قوله: {مِن لَّدُنْكَ نَصِيرًا} وهي متقدِّمةٌ على الآية الأولى وأوَّلها هو قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} الآية، أشار إليه بقوله: <وقال> أي: وقال الله تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}... إلى آخره.
          وقد اختلف الشُّرَّاح في هذا الموضع حَتَّى خرج بعضهم عن مسلك الصواب، فقال ابن بَطَّالٍ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} إلى: {يَعْفُوَ عَنْهُمْ} وقال: {إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ} إلى: {الظَّالِمِ أَهْلُهَا}, انتهى.
          قُلْت: ذكر هنا مِن آيتين متواليتين أولاهما هو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} إلى قوله: {يَعْفُوَ عَنْهُمْ} وتمامها: {قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} والأخرى هو قوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء:98-99] وليس فيه تغييرٌ من التَّلاوة، وقال بعضهم: إلَّا أنَّ فيه تصرُّفًا فيما ساقه المصنِّف.
          قُلْت: فيما ساقه أيضًا نظرٌ لا يخفى، وقال ابن التين: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}... إلى قوله: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} ليس التلاوة كذلك؛ لأنَّ قوله: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} قبل هذا، قال: ووقع في بعض النُّسَخ: إلى قوله: {غَفُورًا رَحِيمًا}، وفي بعضها: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ}، وقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ} إلى قوله: {مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} وهذا على سبيل التنزيل، قال بعضهم: كذا قال فأخطأ فالآية التي آخرها: {نَصِيرًا} في أوَّلها {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} بالواو لا بلفظ: {إلَّا}، وقال صاحب «التوضيح»، ووقع في الآيتين تخليطٌ في «شرح ابن التين».
          قُلْت: والصواب ما ذكرنا، ثُمَّ نذكر شرح الآيات المذكورة.
          فقوله: ({إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}) روى ابن أبي حاتمٍ بإسناده إلى عِكْرِمَة عن ابن عَبَّاسٍ قال: كان قومٌ مِن أهل مكَّة أسلموا وكانوا يستخفون إسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدرٍ معهم فأُصيب بعضهم، قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأُكْرِهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}... الآية.
          قوله: ({ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}) أي: بترك الهجرة.
          قوله: ({قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ}) أي: لم مكثتم هَهُنا، وتركتم الهجرة ({قَالُوا كُنَا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ}) أي: لا نقدر على الخروج مِنَ البلد ولا الذهاب في الأرض ({قَالْوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً}) الآية، وقال أبو داود بإسناده إلى سَمُرة بن جُنْدبٍ: أَمَّا بعد قال رسول الله صلعم : «مَن جاء مع المشرك وسكن معه فَإِنَّهُ مثله».
          قوله: ({إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء}) الآية، عذرٌ مِنَ الله ╡ لهؤلاء في ترك الهجرة، وذلك أنَّهم لا يقدرون على التخلُّص مِن أيدي المشركين، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق، ولهذا / قال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} وقال عِكْرِمَة: يعني: نهوضًا إلى المدينة، وقال السُّدِّي: يعني: مالًا، وقال الضَّحَّاك: يعني: طريقًا.
          قوله: ({فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ}) أي: يتجاوز عنهم تركهم الهجرة، و(عسى) مِنَ الله موجبة.
          قوله: ({وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ}) أي: في الجهاد.
          قوله: ({وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}) أي: وفي المستضعفين؛ أي: في استنقاذهم.
          قوله: ({مِنَ الرِّجَالِ}) كلمة {مِن} بيانيَّةٌ.
          قوله: ({مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ}) يعني: مكَّة ووصفها بقوله: ({الظَّالِمِ أَهْلُهَا}).
          قوله: ({وَلِيًّا}) أي: ناصرًا.
          (ص) فَعَذَرَ اللهُ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَرْكِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَالْمُكْرَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَضْعَفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ.
          (ش) قوله: (فَعَذَرَ اللهُ) أي: جعلهم معذورين.
          قوله: (غَيْرَ مُمْتَنِعٍ) غرضه أنَّ المستَضْعَف لا يقدر على الامتناع مِنَ الفعل فهو فاعلٌ لأمر المكره، فهو معذورٌ.
          (ص) وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّقِيَّةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
          [(ش) أي: قال الحسن البَصْريُّ: التقيَّة ثابتةٌ إلى يوم القيامة]، لم تكن مختصَّةً بعهده صلعم ، ووصله ابن أبي شَيْبَةَ عن وكيعٍ عن هشامٍ عن قتادة عنه.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَنْ يُكْرِهُهُ اللُّصُوصُ فَيُطَلِّقُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ.
          (ش) أي: قال عبد الله بن عَبَّاسٍ فيمن يكرهُهُ اللصوص على طلاق امرأته فيُطلِّق امرأته.
          قوله: (لَيْسَ بِشَيْءٍ) أي: لا يقع طلاقه، وهذا كأنَّه مبنيٌّ على أنَّ الإكراه يتحقَّق مِن كلِّ قادرٍ عليه، وهو قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا إكراه إلَّا مِن سلطانٍ، وأثر ابن عَبَّاس أخرجه عبد الرَّزَّاق بسندٍ صحيحٍ عن عِكْرِمَة عن ابن عَبَّاسٍ: أنَّهُ كان لا يرى طلاق المكره شيئًا، وذكر ابن وهب عن عُمَر بن الخَطَّاب وعليٍّ وابن عَبَّاس: أنَّهم كانوا لا يرون طلاقه شيئًا، وذكره ابن المنذر عن ابن الزُّبَير وابن عمر وابن عَبَّاسٍ وعطاءٍ وطاوُوس والحسن وشريحٍ والقاسم ومالكٍ والأوزاعيِّ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثورٍ، وأجازت طائفةٌ طلاقه، روي ذلك عن الشعبيِّ والنخعيِّ وأبي قِلَابَة والزُّهْريِّ وقتادة، وهو قول الكوفيِّين.
          (ص) وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَير وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ.
          (ش) أي: وبِقولِ ابنِ عَبَّاسٍ قال عبد الله بن عُمَر وعبد الله بن الزُّبَير وعامر بن شَرَاحيل الشعبيُّ والحسن البَصْريُّ، وعن الشعبيِّ: إن أكره اللصوصُ فليس بطلاقٍ، وإن أكرهه السلطانُ فهو طلاقٌ.
          قُلْت: كذا هو مذهب أبي حنيفة ☺ ، كما ذكرناه.
          (ص) وَقَالَ صلعم : «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ».
          (ش) هذا الحديث قد مضى في أَوَّل الكتاب مطوَّلًا موصولًا، وقد بيَّنا هناك اختلاف لفظ (العمل)، ثُمَّ وجه إيراد هذا الحديث هنا الإشارة بالردِّ على مَن فرَّق في الإكراه بين القول والفعل، وهو مذهب الظاهريَّة، فَإِنَّهُم فرَّقوا بينهما، فقال ابن حزمٍ: الإكراه قسمان؛ إكراهٌ على كلامٍ، وإكراهٌ على فعلٍ؛ فالأَوَّل: لا يجب به شيءٌ، كالكفر والقذف والإقرار بالنكاح والرجعة والطلاق والبيع والابتياع والنذر والأيْمان والعتق والهبة وغير ذلك، والثاني: على قسمين؛ أحدهما ما تبيحه الضرورة كالأكل والشرب، فهذا يبيحه الإكراه فمَن أُكِرَه على شيءٍ مِن ذلك فلا يلزمه شيءٌ؛ لأنَّه أتى مباحًا له إتيانه، والآخر: ما لا يبيحه كالقتل والجراح والضرب وإفساد الأموال، فهذا لا يبيحه الإكراه، فمَن أُكْرِه على شيءٍ مِن ذلك لزمه، وفي «التوضيح»: وقالت طائفةٌ: الإكراه في القول والفعل سواءٌ إذا أسرَّ الإيمان، روي ذلك عن عُمَر بن الخَطَّاب، وهو قول مكحولٍ ومالكٍ وطائفةٍ مِن أهل العراق.
          ثُمَّ وجه الاستدلال بالحديث المذكور في التسوية بين القول والفعل _وهو الذي عليه الجمهور_ هو أنَّ العمل يتناول فعل الجوارح والقلوب والأقوال.
          فَإِنْ قُلْتَ: إذا كان كذلك يحتاج كلُّ فعلٍ إلى نيَّةٍ، والمُكرَه لا نيَّة له، فلا يؤاخذ.
          قُلْت: له نيَّةٌ، وهي نيَّة عدم الفعل الذي أُكْرِهَ عليه.
          فَإِنْ قُلْتَ: ينبغي على هذا ألَّا يؤاخذ الناسي والمخطئ في الطلاق / والعتاق ونحوهما؛ لأنَّه لا نيَّة لهما.
          قُلْت: بل يؤاخذ، فيصحُّ طلاقه حَتَّى لو قال: اسقني مثلًا، فجرى على لسانه: أنت طالقٌ، وقع الطلاق؛ لأنَّ القصد أمرٌ باطنٌ لا يُوقَف عليه، فلا يتعلَّق الحكم لوجود حقيقته، بل يتعلَّق بالسبب الظاهر الدالِّ؛ وهو أهليَّة القصد بالبلوغ والعقل.
          فَإِنْ قُلْتَ: ينبغي على هذا أن يقع طلاق النائم.
          قُلْت: المانع هو قوله صلعم : «رُفِعَ القلم عن ثلاثٍ».