عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

الأحقاف
  
              

          ░░░46▒▒▒ (ص) سُورَةُ {حم} الأَحْقَافِ.
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة الأحقاف) وفي بعض النُّسَخ: <{حم} الأحقاف> وفي بعضها: <الأحقاف>، وفي بعضها: <ومِن سورة الأحقاف> وقال أبو العَبَّاس: هي مَكِّيَّةٌ، وفيها آيتان مدنيَّتان: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُم بِهِ} وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} وهي ألفان وخمسُ مئةٍ وخمسةٌ وتسعون حرفًا، وستُّ مئةٍ وأربعٌ وأربعون كلمةً، وخمسٌ وثلاثون آية.
          و(الأَحْقَافِ) قال الكسائيُّ: هي ما استدار مِنَ الرمل، واحدها (حِقفٍ وحِقافٍ)، مثل: (دِبْغٍ ودِبَاغٍ)، و(لِبسٍ ولِباسٍ)، وقيل: الحِقافُ جمع: (الحقف) و(الأحقاف) جمع الجمع، وقال ابن عَبَّاسٍ: الأحقاف: وادٍ بين عُمَان ومَهْرة، وعن مقاتلٍ: كانت منازل عادٍ باليمن في حضرمَوت في موضعٍ يقال له: مَهْرة، تُنسَب إليها الجِمَال المَهْريَّة، وكانوا أهل عُمُد سيَّارة في الربيع، فإذا هاج العودُ رجعوا إلى منازلهم، وكانوا مِن قبيلة إِرَم، وعن الضَّحَّاك: الأحقاف: جبلٌ بالشام، وعن / مجاهدٍ: هي أرض حَسْمى، وعن الخليل: هي الرِّمال العِظام.
          (ص) ♫
          (ش) لم تثبت البسملة إلَّا لأبي ذرٍّ.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تُفِيضُونَ} تَقُولُونَ.
          (ش) أي: قال مجاهدٌ في قوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ}[الأحقاف:4] وفسَّره بقوله: (تَقُولُونَ) ووقع في رواية أبي ذرٍّ بغير قوله: (قال مجاهد) ورواه الطَّبَريُّ مِن طريق ابن أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ مثلَه.
          (ص) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَثَرَةٍ وَأُثْرَةٍ وَ{أَثَارَةٍ} بَقِيَّةٌ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وفسَّر بعضهم هذه الألفاظ الثلاثة: (بَقِيَّة) فالأَوَّل: (أَثَرَةٍ) بفتحتين، والثاني: (أُثْرَةٍ) بِضَمِّ الهمزة وسكون الثاء المُثَلَّثة، والثالث: (أَثَارَةٍ) على وزن (فَعَالةٍ) بالفتح والتخفيف، وفسَّر أبو عُبَيْدةَ: {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} أي: بقيَّةٍ مِن علمٍ، وقال الطَّبَريُّ: قراءة الجمهور: {أَثَارَةٍ} بالألف، وعن الكلبيِّ: بقيَّةٍ مِن علمٍ بقيت عليكم مِن علوم الأوَّلين، تقول العرب: لهذه الناقة أثارةٌ مِن سِنٍّ؛ أي: بقيَّةٌ، وعن عِكْرِمَة ومقاتلٍ: روايةٍ عن الأنبياء ‰ ، وأصل الكلمة مِنَ الأَثَر وهو الرواية، يقال: أَثَرْتُ الحديثَ آثُرُه أَثَرًا وأثَارَةً، كـ(الشَّجاعة والجَلادة والصَّلابة) فأنا آثره، ومنه قيل للخبر: أَثَرٌ، وعن مجاهدٍ: معناه: روايةٍ يؤثرونها ممَّن كان قبلهم، وقيل: {أَثَارَةٍ} ميراثٍ مِن علمٍ، وقيل: مناظرةٍ مِن علمٍ؛ لأنَّ المناظرة في العلم مثيرةٌ لمعانيه، وقيل: اجتهادٌ مِن علمٍ.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} لَسْتُ بِأَوَّلِ الرُّسُلِ.
          (ش) أي: قال ابن عَبَّاسٍ في قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} الآيَةَ [الأحقاف:9] وفسره بقوله: (لَسْتُ بِأَوَّلِ الرُّسُلِ) وروى هذا ابنُ المنذر عن عَلَّان، عن أبي صالحٍ، عن معاوية، عن عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عَبَّاسٍ، وفي بعض النُّسَخ: <ما كنتُ بأَوَّل الرسل>، يقال: ما هذا عنِّي بِبِدْعٍ؛ أي: ببديعٍ.
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: {أَرَأَيْتُمْ} هَذِهِ الأَلِفُ إِنَّما هِيَ تَوَعُّدٌ، إِنْ صَحَّ مَا تَدَّعُونَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: {أَرَأَيْتُمْ} بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ، إِنَّما هُوَ: أَتَعْلَمُونَ؟ أَبَلَغَكُمْ أَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله خَلَقُوا شَيْئًا؟
          (ش) أي: قال غير ابن عَبَّاسٍ، هذا كلُّه ليس في رواية أبي ذرٍّ، وأشار به إلى قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُم بِهِ}[الأحقاف:10].
          قوله: ({أَرَأَيْتُمْ}) معناه: أخبِروني، كذلك قاله المفسِّرون، وفي «تفسير النَّسَفِيِّ»: قُلْ يا مُحَمَّدُ لهؤلاء الكفَّار: {أَرَأَيْتُمْ} أخبروني {إِن كَانَ} أي: القرآن {مِنْ عِنْدِ اللهِ} وقيل: إن كان مُحَمَّدٌ {مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} وجواب الشرط محذوفٌ تقديره: إن كان هذا القرآن مِن عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ويدلُّ على هذا الحذف قوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال قتادة والضَّحَّاك: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} هو عبد الله بن سلام شهد على نبوَّة رسول الله صلعم فآمن به، وقيل: هو موسى بن عِمْرَان ◙ ، وقال مسروقٌ في هذه الآية: واللهِ ما نزلَتْ في عبد الله بن سلام؛ لأنَّ {حم} نزلت بِمَكَّةَ، وإِنَّما أسلم عبد الله بالمدينة، وإِنَّما كانت محاجَّةً مِن رسول الله صلعم لقومه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
          قوله: (هَذِهِ الأَلِفُ) أشار به إلى أنَّ الهمزة التي في أَوَّل: {أَرَأَيْتُمْ} إِنَّما هي توعُّدٌ لكفَّار مكَّة حيث ادَّعوا صحَّة ما عبدوه مِن دون الله، وإن صحَّ ما يدَّعون في زعمهم ذلك فلا يستحقُّ أن يُعبَد؛ لأنَّه مخلوقٌ، ولا يستحقُّ أن يُعبَد إلَّا الله الذي خلق كلَّ شيءٍ.
          قوله: (وَلَيْسَ قَوْلُهُ) أراد به: أنَّ الرؤية في قوله: ({أَرَأَيْتُمْ}) ليست مِن رؤية العين التي هي الإبصار، وإِنَّما معناه ما قاله مِن قوله: (أَتَعْلَمُونَ أَبَلَغَكُمْ...) إلى آخره.