عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

{والفجر}
  
              

          ░░░89▒▒▒ (ص) سُورَةُ {وَالْفَجْرِ}
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة الفجر)، وهي مَكِّيَّةٌ، وقيل: مدنيَّةٌ، حكاه ابن النقيب عن عليِّ ابن أبي طلحة، وهي خمسُ مئةٍ وسبعةٌ وسبعون حرفًا، ومئةٌ وتسعٌ وثلاثون كلمةً، وثلاثون آيةً.
          {الفجر} قال ابن عَبَّاسٍ: يعني: النهار كلَّه، وعنه: صلاة الفجر، وعنه: فجر المُحرَّم، وعن قتادة: أَوَّل يومٍ مِنَ المُحرَّم، وفيه تنفجر السَّنَة، وعن الضَّحَّاك: فجر ذي الحجَّة، وعن مقاتلٍ: غداة جمعٍ كلَّ سنةٍ، وعن القرطبيِّ: انفجار الصبح مِن كلِّ يوٍم إلى انقضاء الدنيا، وقال الثَّعْلَبيُّ: الفجر الصخور والعيون تنفجر بالمياه، والله أعلم.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (الْوَتْرُ) اللهُ.
          (ش) أي: قال مُجاهدٌ في قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}[الفجر:3] {الوتر} هو الله ╡ ، رواه أبو مُحَمَّدٍ عن عُبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ بلفظ: {الشفع}: الزوج، و{الوتر} هو الله ╡ ، وعند عبد بن حُمَيدٍ عن ابن عَبَّاسٍ: {الشفع} يوم النحر، و{الوتر} يوم عرفة، وعن قتادة: مِن الصلاة شفعٌ، ومنها وترٌ، وقال الحسن: مِنَ العدد شفعٌ، ومنه وترٌ، ويروى: {الشفع} آدم وحوَّاء ♂ ، و{الوتر} هو الله تعالى.
          وقراءة المدينة ومكَّة والبصرة وبعض الكوفيِّين بفتح الواو، وهي لغة أهل الحجاز، وعامَّة قرَّاء الكوفة بكسرها.
          (ص) {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} الْقَدِيمَةِ، وَالْعِمَادُ: أَهْلُ عَمُودٍ لَا يُقِيمُونَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}[الفجر:6-7].
          قوله: ({إِرَمَ}) عطف بيان لـ{عاد} وكانت عادٌ قبيلتين؛ عادٌ الأولى وعادٌ الأخيرة، وأُشِير إلى عاد الأولى بقوله: (القَدِيمَةِ)، وقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ◙ : عادٌ؛ كما يقال لبني هاشم: هاشم، و(إرم) تسميةٌ لهم باسم جدِّهم، وهم عادٌ الأولى، وقيل لمن بعدهم: عادٌ الأخيرة، و(إرم) غير منصرفٍ، قبيلةً كانت أو أرضًا؛ للتعريف والتأنيث.
          واختُلِف في {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} فقيل: دمشق، قاله سعيد بن المُسَيَِّبِ، وعن القُرَظيِّ: هي الإسكندريَّة، وعن مجاهدٍ: هي أمَّةٌ، ومعناها: القديمة، وعن قتادة: هي قبيلةٌ مِن عادٍ، وعن ابن إسحاق: هي جدُّ عادٍ، والصواب: أنَّها اسم قبيلةٍ أو بلدةٍ.
          قوله: ({ذَاتِ الْعِمَادِ}) ذات الطول والشدَّة والقوَّة، وعن المقدام عن النَّبِيِّ صلعم أنَّهُ ذكر {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} فقال: «كان الرجل منهم يأتي الصخرة فيحملها على الحيِّ فيُهْلِكُهم»، وعن الكلبيِّ: كان طول الرجل منهم أربعُ مئة ذراعٍ، وعن مقاتلٍ: طول أحدهم [اثنا عشر ذراعًا في السماء مثل أعظم أسطوانةٍ، وفي «تفسير ابن عَبَّاسٍ»: طول أحدهم] مئة ذراعٍ، وأقصرهم اثنا عشر ذراعًا.
          قوله: (وَالْعِمَادُ) مبتدأٌ و(أَهْلُ عَمُودٍ) خبرُه، أي: أهل خيامٍ لا يقيمون في بلدةٍ، وحاصل المعنى: أنَّهُ قيل لهم: {ذات العماد} لأنَّهم كانوا أهل عمودٍ لا يقيمون، وكانوا سيَّارةً ينتجعون الغيث، وينتقلون إلى الكلاء حيث كان، ثُمَّ يرجعون إلى منازلهم، فلا يقيمون في موضعٍ، وكانوا أهل جنانٍ وزروعٍ، ومنازلهم كانت بوادي القرى، وقيل: سمُّوا ذات العماد لبناءٍ بناه شَدَّاد بن عادٍ، وحكايته مشهورةٌ في التفاسير.
          (ص) {سَوْطَ عَذَابٍ} الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}[الفجر:13] وفسَّر: ({سَوْطَ عَذَابٍ}) بقوله: (الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ) فقيل: هو كلمةٌ تقولها العرب لكلِّ نوعٍ مِنَ العذاب يدخل فيه السَّوط، وروى ابن أبي حاتمٍ مِن طريق قتادة: كلُّ شيءٍ عذَّب الله سوط عذابٍ.
          (ص) {أَكْلًا لَمًّا} السَّفُّ، و{جَمًّا} الْكَثِيرُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَيَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا. وَيُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}[الفجر:19-20].
          قوله: ({التُّرَاثَ}) أي: تراث اليتامى؛ أي: ميراثهم.
          قوله: ({لَمًّا}) فسَّره بقوله: (السَّفُّ) مِن سففتُ الأكل أسفُّه سفًّا، ويقال أيضًا: سففت الدواء / أسفُّه، وأسففت غيري، وهو السَّفُوف؛ بالفتح، وسففتُ الماء إذا أكثرتَ مِن شربه مَن غير أن تروى، وقال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب غيره، وقال النَّسَفِيُّ: {أَكْلًا لَمًّا} ذا لَمٍّ، وهو الجمع بين الحلال والحرام، وعن بَكْر بن عبد الله: اللَّمُّ: الاعتداء في الميراث، يأكل كلَّ شيءٍ يجده، ولا يسأل عنه أحلالٌ أم حرامٌ، ويأكل الذي له ولغيره، وذلك أنَّهم كانوا لا يورِّثون النساءَ ولا الصبيان، وقيل: يأكلون ما جمعه الميِّت مِن المظلمة، وهو عالمٌ بذلك فيلمُّ في الأكل مِن حلاله وحرامه، وقال أبو عبيدة: يقال: لممت ما على الخِوان؛ إذا أتيتَ ما عليه وأكلتَه كلَّه أجمع.
          قوله: (وَ{جَمًّا} الْكَثِيرُ) أي: يعنى قوله: {حُبًّا جَمًّا} أي: كثيرًا شديدًا مع الحرص والشَّرَهِ عليه ومنع الحقوق، يقال: جمَّ الماء في الحوض إذا كثر واجتمع.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَهْوَ شَفْعٌ، السَّمَاءُ شَفْعٌ، وَالْوَتْرُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
          (ش) أي: وقال مُجاهدٌ في قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}[الفجر:3] والباقي ظاهرٌ.
          [فَإِنْ قُلْتَ: السماء وترٌ لا شفعٌ؟
          قُلْت: معناه السماء شفعٌ للأرض؛ كالحارِّ والبارد، والذكر والأنثى]
.
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: {سَوْطَ عَذَابٍ} كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ يَدْخُلُ فِيهِ السَّوْطُ.
          (ش) أي: قال غيرُ مجاهد في قوله تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} وقد مرَّ الكلام فيه الآن، ولو ذكر هذا عند قوله: ({سَوْطَ عَذَابٍ} الذي عُذِّبوا به) لكان أولى وأرتَب.
          (ص) {لَبِالْمِرْصَادِ} إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}[الفجر:14] وفسَّره بقوله: (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وكذا فسَّره الفَرَّاء، و(المرصاد) على وزن (مِفعالٍ) وقال بعضهم: «مِفْعَالٌ» مِن «مَرصدٍ» وهو مكان الرَّصد.
          قُلْت: هذا كلام مَن ليس له يدٌ في علم التصريف، بل (المِرصاد) هو المَرصد، ولكنَّ فيه مِن المبالغة ما ليس في (المَرصَد) وهو (مِفعال) مِن رَصَده؛ كـ(ميقاتٌ) مِن وَقَته، وهذا مَثَلٌ لإرصاده العصاة بالعذاب وأنَّهم لا يفوتونه، وعن ابن عَبَّاسٍ: بحيث يرى ويسمع، وعن مقاتلٍ: يرصد الناس على الصراط فيجعل رصدًا مِنَ الملائكة معهم الكلاليب والمحاجِن والحسَك.
          (ص) {تَحَاضُّونَ} تُحَافِظُونَ، وَ{تَحُضُّونَ} تَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِهِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَا يَحُضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الفجر:18] وهنا قراءتان؛ إحداهما: ({تَحَاضُّونَ}) وهي قراءة أهل الكوفة، [بالألف وفتح التاء، وفسَّره بقوله: (تُحَافِظُونَ) ]، والأخرى: ({تَحُضُّونَ}) بلا ألف، وهي قراءة الباقين، وعن الكسائيِّ: {تُحَاضُّون} بالضَّمِّ، وفسَّر الذي بلا ألفٍ بقوله: (تَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِهِ) أي: بإطعام المسكين.
          (ص) {الْمُطْمَئِنَّةُ} الْمُصَدِّقَةُ بِالثَّوَابِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} إِذَا أَرَادَ اللهُ ╡ قَبْضَهَا اطْمَأَنَّتْ إِلَى اللهِ، وَاطْمَأَنَّ اللهُ إِلَيْهَا، وَرَضِيَتْ عَنِ اللهِ، وَ♦، فَأَمَرَ بِقَبْضِ رُوحِهَا، وَأَدْخَلَهَا اللهُ الْجَنَّةَ، وَجَعَلَهُ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً} الآية [الفجر:27] وفسَّر ({الْمُطْمَئِنَّةُ}) بقوله: (الْمُصَدِّقَةُ بِالثَّوَابِ)، وقيل: المطمئنَّة إلى ما وعد الله المصدِّقة بما قال، وعن ابن كَيْسان: المطمئنَّة المُخلِصة، وعن ابن عطاءٍ: العارفة بالله تعالى التي لا تصبر عنه طرفة عينٍ، وقيل: المطمئنَّة بذكر الله، دليله قوله تعالى: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ}[الرعد:28] وقيل: المتوكِّلة على الله.
          قوله: (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البَصْريُّ في قوله ╡ : {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ}... إلى آخره، وتأنيث الضمائر فيه في المواضع السبعة ظاهرٌ؛ لأنَّها ترجع إلى النفس، وفي قوله: (وَجَعَلَهُ) بالتذكير باعتبار الشخص، ووقع في رواية الكُشْميهَنيِّ بالتأنيث في ثلاثة مواضع فقط؛ وهي قوله: (وَاطْمَأَنَّ اللهُ إِلَيْهَا) (وَ♦) (وَأَدْخَلَهَا اللهُ الْجَنَّةَ).
          وهذا التعليق رواه ابنُ أبي حاتمٍ مِن طريق حفصٍ عنه، وإسناد الاطمئنان إلى الله تعالى مجازٌ يريد به لازمه وغايته؛ مِن نحو إيصال الخير، وفيه المشاكلة، و(الرضى) هو ترك الاعتراض.
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: {جَابُوا} نَقَبُوا مِنْ جِيبَ الْقَمِيصُ: قُطِعَ لَهُ جَيْبٌ، يَجُوبُ الْفَلَاةَ يَقْطَعُهَا.
          (ش) أي: قال غير الحسن في قوله تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}[الفجر:9] وفسَّر ({جَابُوا}) بقوله: (نَقَبُوا). /
          قوله: (مِنْ جِيبَ الْقَمِيصُ) إشارةً إلى أنَّ أصل (الجَيب) القَطع، ومنه يقال: جِبْتُ القميصَ؛ إذا قطعتَ له جَيبًا، وكذلك (يَجُوبُ الْفَلَاةَ) أي: (يَقْطَعُهَا)، وقال الفَرَّاء: {جَابُوا الصَّخْرَ} خرقوه فاتَّخذوه بيوتًا.
          (ص) {لَمًّا} لَمَمْتُهُ أَجْمَعَ: أَتَيْتُهُ عَلَى آخِرِهِ.
          (ش) لم يثبت هذا لأبي ذرٍّ، وسقوطه أولى؛ لأنَّه مكرَّرٌ، ذُكِر مَرَّةً عن قريبٍ، ومع هذا لو ذُكِر هناك؛ لكان أولى.