عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

كتاب الحيض
  
              

          ░░6▒▒ (ص) كِتَابُ الحَيْضِ.
          (ش) أي: هذا كتابٌ في بيان أحكام الحيض، ولمَّا فرغ عمَّا ورد في بيان أحكام الطهارةِ مِنَ الأحداث أصلًا وخلفًا؛ شرع في بيان ما ورد في بيان الحيض الذي هو مِنَ الأنجاس، وقدَّم ما ورد فيه على ما ورد في النفاس؛ لكثرة وقوع الحيض بالنسبة إلى وقوع النفاس.
          (الحَيْضُ) في اللُّغة: السيلان، يقال: حاضتِ السَّمُرة؛ وهي شجرة يسيل منها شيءٌ؛ كالدَّم، ويقال: «الحيض» لغةً: الدَّم الخارج، يقال: حاضتِ الأرنب؛ إذا خرج منها الدَّم، وفي «العُباب»: «التحييض»: التَّسييل، يقال: حاضتِ المرأة تحيضُ حيضًا ومحاضًا ومحيضًا، وعن اللحيانيِّ: حاض وجاض وحاص _بالمهملتين_ وحاد كلُّها بمعنًى، والمرأة / حائض، وهي اللُّغة الفصيحة الفاشية بغير تاء، واختلفت النحاة في ذلك؛ فقال الخليل: لمَّا لم يكن جاريًا على الفعل؛ كان بمنزلة المنسوب؛ بمعنى: حائضيٍّ؛ أي: ذات حيض؛ كدارِع ونابِل وتامِر ولابِن، وكذا طالِق وطامِث، وقاعِد للآيسة؛ أي: ذات طلاق، ومذهب سيبويه: أنَّ ذلك صفةُ شيءٍ مُذكَّر؛ أي: شيء أو إنسان أو شخص حائض، ومذهبُ الكوفيِّين: أنَّهُ استُغنيَ عن علامة التأنيث؛ لأنَّه مخصوصٌ بالمؤنَّث، ونُقِضَ بـ(جَمَلٍ بازِل) و(ناقة بازِل)، و(ضامِر) فيهما.
          وأَمَّا معناه في الشرع؛ فهو: دمٌ ينفضُه رحمُ امرأةٍ سليمةٍ عن داءٍ وصِغَرٍ، وقال الأزهريُّ: «الحيض»: دم يُرخيه رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة مِن قعر الرحم، وقال الكرخيُّ: الحيض دم تصير به المرأة بالغةً بابتداء خروجه، وقيل: هو دمٌ ممتدٌّ خارج عن موضعٍ مخصوصٍ؛ وهو القُبُل، و«الاستحاضة»: جريان الدم في غير أوانه، وقال أصحابنا: «الاستحاضة»: ما تراه المرأة في أقلَّ من ثلاثة أيَّام أو على أكثرَ مِن عشرة أيَّام.
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ}[البقرة:222].
          (ش) (وَقَوْلِ اللهِ) بالجرِّ عطفًا على قوله: (الحيضِ) المضاف إليه لفظ (كتاب)، وسبب نزول هذه الآية ما رواه مسلمٌ مِن حديث أنس ☺ : أنَّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم؛ لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب رسول الله صلعم ، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ} الآية[البقرة:222]، فقال النَّبِيُّ صلعم : «افعلوا كلَّ شيء إلَّا النِّكاحَ»، وقال الواحديُّ: السائل هو أبو الدَّحداح، وفي «مسلم»: أنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْر وعبَّادَ بنَ بِشْر قالا بعد ذلك: أفلا نُجامعهنَّ؟! فتغيَّر وجه رسول الله صلعم ...؛ الحديث، وهذا بيانٌ للأذى المذكور في الآية، وقال الطَّبَريُّ: سُمِّي الحيض أذًى؛ لنتنه وقذره ونجاسته، وقال الخَطَّابيُّ: الأذى المكروه الذي ليس بشديدٍ؛ كما قال تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}[آل عِمْرَان:111]، فالمعنى: أنَّ المحيضَ [أذًى يعتزل مِنَ المرأة مَوضِعَه، ولكن لا يتعدَّى ذلك إلى بقيَّة بدنها، وقالوا: والمرادُ مِنَ المحيض] الأَوَّل الدَّمُ، وأَمَّا الثاني؛ فقد اختُلِف فيه؛ أهو نفسُ الدم، أو زمن الحيض، أو الفَرْج؟ والأَوَّل هو الأصحُّ.
          فَإِنْ قُلْتَ: أورد هذه الآية ههنا ولم يبيِّن منها شيئًا، فما كانت فائدة ذكرها ههنا؟
          قُلْت: أقلُّ فائدته التَّنبيهُ إلى نجاسة الحيض، والإشارةُ أيضًا إلى وجوب الاعتزال عنهنَّ في حالة الحيض وغير ذلك.