عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

كتاب الإيمان
  
              

          ░░2▒▒ (ص) كتاب الإيمان
          (ش) أي: هذا كتابُ الإيمان، فيكونُ ارتفاعُ (الكتابِ) على أنَّهُ خبرُ مبتدأٍ مَحذوفٍ، ويجوزُ العكس، ويجوزُ نَصبُهُ على: هاكَ كتابَ الإيمانِ، أو: خُذْهُ، ولَمَّا كانَ (بابٌ: كيفَ كانَ بدءُ الوحي) كالمقدِّمة في أوَّلِ «الجامع»؛ لَم يَذكُرْهُ بـ(الكتابِ)، بل ذكرَهُ بـ(البابِ)، ثُم شَرَع يَذْكُرُ الكتبَ على طريقَةِ أبوابِ الفِقْهِ، وقَدَّمَ (كِتابَ الإيمانِ) ؛ لأنَّهُ مِلاكُ الأمرِ كلِّه؛ إذ الباقِي مَبنيٌّ عليه مَشروطٌ به، وبه النُّجاةُ في الدَّارَينِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بـ(كتابِ العِلمِ) ؛ لأنَّ مدارَ الكُتبِ التي تأتي بعدَهُ كلُّها عليه، وبه تُعلَمُ وتُميَّز وتُفصَّل، وإنَّما أخَّره عن (الإيمان) ؛ لأنَّ الإيمان أوَّلُ واجبٍ على المكلَّفِ، أو لأنَّهُ أفضلُ الأمورِ على الإطلاقِ وأشرفُها، وكيفَ لا؟ وهو مَبدأُ كلِّ خَيرٍ عِلمًا وعَملًا، ومَنشأُ كلِّ كَمالٍ دقًّا وجُلًّا.
          فإنْ قُلتَ: فَلِمَ قَدَّم (باب الوحي) ؟ قلتُ: قد ذَكرتُ لك أنَّ (باب الوحي) كالمقدِّمة في أوَّلِ «الجامعِ»، ومن شأنها أنْ تكونَ أمامَ المقصودِ، وأيضًا فالإيمانُ وجميعُ ما يتعلَّقُ به متوقِّفٌ عليه، وشأن الموقوف عليه التقديمُ، أو لأنَّ الوَحي أوَّلُ خَبرٍ نَزَلَ من السماء إلى هذه الأمَّة، ثُم ذَكَرَ بعد ذلك (كتاب الصلاة) ؛ لأنَّها تاليَةُ الإيمانِ، وثانيته في الكتاب والسُّنَّة، أمَّا الكتاب؛ فقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}[البقرة:3]، وأمَّا السُّنة؛ فقولُهُ عليه الصلاة والسلام: «بُنِيَ الإسلام على خمسٍ...»؛ الحديث، ولأنَّها عماد الدينِ، والحاجة إليها ماسَّةٌ؛ لتكرُّرها كلَّ يوم خَمس مَرَّاتٍ، ثُم أَعْقَبها بالزَّكاةِ؛ لأنَّها ثالثَةُ الإيمان، وثانية الصَّلاة فيهما، ولاعتناءِ الشارع بها؛ لذكرها أكثر من الصَّوم والحجِّ في الكتاب والسُّنَّةِ، ثُمَّ أعقبَها بالحجِّ؛ لأنَّ العبادَةَ إمَّا بَدنيَّة محضَة أو مالية مَحْضة، أو مُركَّبة منهما، فرتَّبها على هذا الترتيبِ، والمفرَدُ مُقدَّم على المركَّبِ طبعًا، فقدَّمَهُ أيضًا وضعًا؛ ليوافِق الوضعُ الطبعَ.
          وأمَّا تقديم الصلاةِ على الزَّكاةِ؛ فلما ذكرنا، ولأنَّ الحجَّ ورد فيه تغليظاتٌ عظيمةٌ، بخلافِ الصوم، ولعدم سقوطهِ بالبَدل؛ لوجوبِ الإتيان به إمَّا مباشرة أو استنابة، بخلافِ الصومِ، ثُمَّ أعقَبَ الحجَّ بالصومِ؛ لكونِهِ مذكورًا في الحديث المشهور مع الأربعةِ المذكورةِ، وفي وضعِ الفقهاءِ الصَّومَ مُقدَّمٌ على الحَجِّ؛ نظرًا إلى كَثرَةِ دورانِهِ بالنِّسبة إلى الحجِّ، وفي بعض النُّسخ يوجدُ (كتاب الصومِ) مُقدَّمًا على (كتاب الحجِّ) ؛ كأوضاعِ الفقهاء.
          ثُمَّ إنَّهُ تَوَّجَ كلَّ واحد منها بـ(الكتابِ)، ثم قسَم الكتاب إلى الأبوابِ؛ لأنَّ كلَّ كتابٍ منها تحتَهُ أنواعٌ، فالعادَةُ أنْ يذكُرَ كلَّ نوعٍ ببابٍ، وربَّما يُفصِّلُ كلَّ بابٍ بفصولٍ؛ كما في بَعض الكتب الفقهيَّة، والكتاب يجمع الأبواب؛ لأنَّهُ من الكَتْب؛ وهو الجمع، والبابُ: هو النَّوع، وأصل مَوضوعِهِ المدخل، ثُم استُعمِل في المعاني مجازًا.
          ثمَّ لفظةُ (الكتاب) ههنا يجوزُ أنْ تكونَ بمعنى المكتوب؛ كـ(الحسابِ) بمعنى المحسوب، وهو في الأصلِ مَصدر، تقول: كَتَبَ يَكْتُبُ كتبًا وكتابَةً وكتابًا، ولفظُ (ك ت ب) في جَميعِ تصرُّفاتِهِ راجِعٌ إلى معنى الجمعِ والضَّمِّ، ومنه الكتيبة؛ وهي: الجيشُ؛ لاجتماعِ الفُرسان فيها، وكَتبتُ القِربَة؛ إذا خَرزْتَها، وكتبتُ البغلَةَ؛ إذا جَمعتَ بين شَفْرَيها بحَلْقَةٍ أو سَيرٍ، وكتبتُ النَّاقَةَ تَكتيبًا؛ إذا صَررْتَها.
          ثُمَّ إنَّهُ يُوجَدُ في كَثيرٍ من النُّسَخِ على أوَّلِ كلِّ كتاب من الكُتبِ: (بسم الله الرحمن الرحيم) ؛ وذلك عَملًا بقوله عَلَيْهِ الصلاة والسَّلام: «كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدَأُ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم؛ فهو أَجْذَمُ» «أو أَقْطَع»، فهذا وإنْ كانتِ البَسملَةُ في أوَّل الكتاب مُغنيةً عنه؛ لكنَّهُ كَرَّرها؛ لزيادَةِ الاعتناءِ على التَّمسُّك بالسُّنَّةِ، وللتبرُّك بابتداءِ اسم الله تعالى في أوَّلِ كلِّ أمرٍ.