عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

{هل أتى على الإنسان}
  
              

          ░░░76▒▒▒ (ص) سُورَةُ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ}.
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ}) وهي مَكِّيَّةٌ، قاله قتادة والسُّدِّيُّ وسفيان، وعن الكلبيِّ أنَّها مَكِّيَّةٌ إلَّا آيات: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} إلى قوله: {قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:8-10]، ويُذكَر عن الحسن أنَّها مَكِّيَّةٌ، وفيها آيةٌ مدنيَّةٌ: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}[الإنسان:24] وقيل: ما صحَّ في ذلك قولُ الحسن ولا الكلبيِّ، وجاءت أخبارٌ فيها أنَّها نزلت بالمدينة في شأن عليٍّ وفاطمة وابنيها ♥ ، وذكر ابن النقيب: أنَّها مدنيَّةٌ كلُّها، قاله الجمهور، وقال السَّخاويُّ: نزلت بعد «سورة الرَّحْمَن» وقبل «الطلاق»، وهي ألفٌ وأربعة وخمسون حرفًا، ومئتان وأربعون كلمةً، وإحدى وثلاثون آيةً.
          (ص) ♫
          (ش) ثبتت البسملة لأبي ذرٍّ.
          (ص) يُقَالُ: مَعْنَاهُ: أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ، وَ(هَلْ) تَكُونُ جَحْدًا وَتَكُونُ خَبَرًا، وَهَذَا مِنَ الْخَبَرِ، يَقُولُ: كَانَ شَيْئًا فَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا، وَذَلِكَ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ إِلَى أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ.
          (ض) القائل فيه بذلك الفرَّاء، وقوله: (مَعْنَاهُ: أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ) يدلُّ على أنَّ لفظ (هَلْ) صلةٌ، ولكن لم يقل أحدٌ: إنَّ (هَلْ) قد تكون صلةً.
          قوله: (وَ«هَلْ» تَكُونُ جَحْدًا) يعني: نفيًا (وَتَكُونُ خَبَرًا) يعني: إثباتًا، يعني: يُخبَر به عن أمرٍ مقرَّرٍ، وتكون (هل) حينئذٍ بمعنى (قد) للتحقيق، وأشار إليه بقوله: (وَهَذَا مِنَ الْخَبَرِ) أراد به أنَّ (هل) هنا؛ يعني: في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ} بمعنى (قد)، ومعناه: قد أتى على الإنسان، وأُريدَ به آدم ◙ .
          وقال الزَّمَخْشَريُّ: إنَّ «هَلْ» أبدًا بمعنى «قد»، وإنَّ الاستفهام إِنَّما هو يستفاد مِن همزةٍ مقدَّرةٍ معها، ونقله في «المفصَّل» عن سيبويه فقال: وعند سيبويه: أنَّ «هل» بمعنى «قد» إلَّا أنَّهم تركوا الألف قبلها؛ لأنَّها لا تقع إلَّا في الاستفهام.
          قوله: {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} أربعون سنةً مُلقًى بين مكَّة والطائف قبل أن يُنفَخَ فيه الروح.
          قوله: {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} لا يُذكَر ولا يُعرَف ولا يُدرَي ما اسمه، ولا ما يُرادُ به، والمعنى: أنَّهُ كان شيئًا لكنَّه لم يكن مذكورًا؛ يعني: انتفاء هذا المجموع بانتفاء صفته، لا بانتفاء الموصوف، ولا حجَّةَ فيه للمعتزلة في دعواهم أنَّ المعدومَ شيءٌ.
          ووقع في بعض النُّسَخ: <وقال يحيى: معناه: أتى على الإنسان...> إلى آخره، و(يحيى) هذا هو ابن زياد بن عبد الله بن منصورٍ الديلميُّ الفَرَّاء، صاحب كتاب «معاني القرآن»، وقال بعضهم: هو صوابٌ؛ لأنَّه قول يحيى بن زيادٍ الفَرَّاء بلفظه.
          قُلْت: دعوى الصواب غيرُ صحيحةٍ؛ لأنَّه يجوز أن يكون هذا قولُ غيره كما هو قوله، ولم يطَّلع البُخَاريُّ على أنَّهُ قول الفَرَّاء وحدَه، فلذلك قال: (يقال: معناه) أو اطَّلع على قول الفرَّاء واطَّلع أيضًا على قولِ غيره مثل قول الفَرَّاء فذكر بلفظ: (يقال) ؛ ليشمل كلَّ مَن قال بهذا القول؛ فافهم.
          (ص) {أَمْشَاجٍ} الأَخْلَاطُ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ، الدَّمُ وَالْعَلَقَةُ، وَيُقَالُ: إِذَا خُلِطَ مَشِيجٌ، كَقَوْلِكَ: خَلِيطٌ، وَمَمْشُوجٌ مِثْلُ مَخْلُوطٍ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}[الإنسان:2] وفسَّر (الأمْشَاج) بقوله: (الأَخْلَاطُ) و(الأمشاج) جمع (مَِشْجٍ) بفتح الميم وكسرها، وقال الثعلبيُّ: «الأمشاج» بناء جمع، وهو في معنى الواحد؛ لأنَّه نعتٌ لـ(النطفة)، وهذا كما يقال: برمةٌ أعشارٌ، وثوبٌ أخلاقٌ.
          قوله: (مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ) تفسير (الأخلاط) يختلط الماءان في الرحم، فيكون منهما جميعًا الولدُ، وماء الرجل أبيضٌ غليظٌ، وماء المرأة أصفرُ رقيقٌ، فأيُّهما علا صاحبَه كان الشبه له، كذا روي عن ابن عَبَّاسٍ والحسن وعِكرمة ومجاهدٍ والرَّبيع.
          قوله: (الدَّمُ وَالْعَلَقَةُ) تقديره: ثُمَّ الدم، ثُمَّ العلقة، ثُمَّ المضغة، ثُمَّ اللَّحم، ثُمَّ العظم، ثمَّ ينشئه الله تعالى خلقًا آخرَ.
          قوله: (وَيُقَالُ: إِذَا خُلِطَ) يعني: إذا خُلِط شيءٌ مع شيءٍ، يقال له: مَشِيجٌ، على وزن (فعيل) بمعنى: (مَفْعول)، مَمْشوجٌ؛ / أي: مخلوطٌ، يقال: مشجت هذا بهذا؛ أي: خلطته.
          (ص) {سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا}.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا}: {أَعْتَدْنَا} هيَّأنا، و(السلاسل) جمع (سلسلةٍ) كلِّ سلسلةٍ سبعون ذراعًا، و(الأغلال) جمع (غُلٍّ) بالضَّمِّ، فالسلاسل في أعناقهم، والأغلال في أيديهم، والسعير يُوقَدون فيه لا يُطفَأ، وقيل: السلاسل القيود، وقرأ نافعٌ والكسائيُّ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: {سلاسلًا} بالتنوين، وهي رواية هشام عن أهل الشَّام، وقرأ حمزة وخلفٌ وحفصٌ وابن كثيرٍ وأبو عَمْروٍ بالفتحة بلا تنوين.
          (ص) وَلَمْ يُجْرِ بَعْضُهُمْ.
          (ش) بِضَمِّ الياء وسكون الجيم وبالراء، مِنَ الإجراء، أراد به: لم يَصرِف بعضهم (سلاسل) يعني: لا يُدخِلون فيه التنوين، وهذا على الاصطلاح القديم، يقولون: اسمٌ مُجْرًى واسمٌ غير مُجرًى؛ يعني: اسمٌ مصروفٌ واسم لا ينصرف، وذكر عياضٌ أنَّ في رواية الأكثرين: «لم يُجِزْ» بالزاي بدل الراء، وقال بعضهم: وهو الأوجه، ولم يبيِّن وجه الأوجهيَّة، بل الراء أوجه على ما لا يخفى.
          (ص) {مُسْتَطِيرًا} مُمْتَدًّا الْبَلَاءُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَيَخَافُونَ يومًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:7] وفسَّره بقوله: (مُمْتَدًّا الْبَلَاءُ) وكذا فسَّره الفَرَّاء، ويقال: مُمتدًّا فاشيًا، يقال: استطار الصَّدْع في الزجاجة واستطال؛ إذا امتدَّ.
          (ص) وَالْقَمْطَرِيرُ: الشَّدِيدُ، يُقَالَ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُمَاطِرٌ، وَالْعَبُوسُ وَالْقَمْطَرِيرُ وَالْقُمَاطِرُ وَالْعَصِيبُ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الأَيَّامِ فِي الْبَلَاءِ.
          (ش) أشار به إلى قوله ╡ : {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يومًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:10] والباقي ظاهرٌ، و(قُماطِرٌ) بِضَمِّ القاف، وعن ابن عَبَّاسٍ: العبوس: الضَّيِّق، والقمطرير: الطويل، وعن مجاهدٍ: القمطرير: الذي يقلِّص الوجوه ويقبض الجباه وما بين الأعين مِن شدَّته، وعن الكسائيِّ: يقال: اقْمَطَرَّ اليوم، وازْمَهَرَّ اقمطرارًا وازمهرارًا، وهو الزمهرير.
          (ص) وَقَالَ الحَسَنُ: النَّضْرَةُ فِي الوَجْهِ وَالسُّرْورُ فِي القَلْبِ.
          (ش) أي: قال الحسن البَصْريُّ في قوله تعالَى وتعظَّمَ: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}[الإنسان:11]: إنَّ (النَّضْرَة فِي الوَجْهِ وَالسُّرْور فِي القَلْبِ) ولم يثبت هذا إلا للنَّسَفِيِّ والجرجانيِّ.
          (ص) وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الأرَائِكُ: السُّرُرُ.
          (ش) أي: قال ابن عَبَّاسٍ في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ}[الإنسان:13] وفسَّرها: بالسُّرُر؛ جمع (سريرٍ)، وقال الثعلبيُّ: الأرائك: السُّرُر في الحِجال، لا يكون أريكةً إلَّا إذا اجتمعا، وهي لغةُ أهل اليمن، وقال مقاتلٌ: الأرائك: السُّرُر في الحِجال مِنَ الدُّرُّ والياقوت، موضونةٌ بقضبان الدُّرِّ والذهب والفَّضة وألوان الجواهر.
          ولم يثبت هذا أيضًا إلَّا للنَّسَفِيِّ والجرجانيِّ.
          (ص) وَقَالَ البَرَاءُ: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها} يَقْطُفُونَ كَيْفَ شَاؤُوا.
          (ش) أي: قال البراء في قوله تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14] (يَقْطُفُونَ كَيْفَ شَاؤُوا).
          قوله: ({قُطُوفُها}) أي: ثمارها (يقطفون) أي: يقطعون منها قيامًا وقعودًا ومضطجعين، يتناولونها كيف شاؤوا، وعلى أيِّ حال كانوا.
          ولم يثبت هذا إلا للنَّسَفِيِّ وحدَه.
          (ص) وَقَالَ مَعْمَرٌ: {أَسْرَهُمْ} شِدَّةُ الْخَلْقِ، وَكُلُّ شَيْءٍ شَدَدْتَهُ مِنْ قَتَبٍ أو غَبِيطٍ فَهْوَ مَأْسُورٌ.
          (ش) أي: قال مَعْمَر بن المُثَنَّى أبو عبيدة أو مَعْمَر بن راشد في قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} الآية [الإنسان:28]، وسقط هذا لأبي ذرٍّ عن المُسْتَمْلِي وحده.
          وفسَّر: (الأَسْر) بشدَّة الخَلْق، ويقال للفرس: شديد الأَسْر؛ أي: شديد الخَلْق.
          قوله: (أو غَبِيطٍ) بفتح الغين المُعْجَمة وكسر الباء المُوَحَّدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره طاءٌ مُهْمَلةٌ، وهو رحل النساء، يشدُّ عليه الهودج، والجمع (غُبُط) بضمَّتين.
          وقال بعضهم: وظنَّ بعضهم أنَّهُ مَعْمَر بن راشدٍ، وزعم أنَّ عبد الرَّزَّاق أخرجه في «تفسيره» عنه.
          قُلْت: يريد به شيخه صاحب «التوضيح» فَإِنَّهُ قال بعد قوله: (وقال معمرٌ...) إلى آخره: وأخرجه عبد الرَّزَّاق عن معمرٍ عن قتادة، وذكره عن مجاهدٍ وغيره، والظاهر أنَّهُ مَعْمَر بن راشدٍ؛ لأنَّه روى عن قتادة نحوه، وأيضًا: فالبُخَاريُّ أخرج في (التفسير) عن أبي عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى في مواضعَ كثيرةٍ، ولم يصرِّح باسمه، فما باله هنا صرَّح به وأراد به ابن المُثَنَّى وليس إلَّا معمر بن / راشدٍ؟!