عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

كتاب الفرائض
  
              

          ░░85▒▒ كِتَابُ الفَرَائِضِ.
          (ص) ♫
          (ش) أي: هذا كتابٌ في بيان أحكام الفرائض؛ وهو جمع (فريضة) وهي في اللُّغة: اسم ما يُفرَض على المكلَّف، ومنه: فرائض الصلوات والزَّكَوات، وسُمِّيت أيضًا المواريثُ فرائضَ وفروضًا؛ لما أنَّها مقدَّراتٌ لأصحابها، ومُبَيَّناتٌ في كتاب الله تعالى، ومقطوعاتٌ لا تجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها، وهي في الأصل مشتَقٌّ مِنَ الفرض؛ وهو القطع، والتقدير، والبيان، ويقال: فرضت لفلانٍ كذا؛ أي: قطعت له شيئًا مِنَ المال، وقال الله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا}[النور:1] أي: قدَّرنا فيها الأحكام، وقال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}[التحريم:2] أي: بيَّن كفَّارة أيمانكم.
          ░1▒ (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلَابَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}[النساء:11-12].
          (ش) (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على قوله: (الفَرَائِضِ) والآيتان المذكورتان سيقتا بتمامهما في رواية أبي ذرٍّ، وغيرُه ساقَ الآية الأولى وقال بعد قوله: {عَلِيمًا حَكِيمًا}: <إلى قوله: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}>.
          هاتان الآيتان الكريمتان والآية التي هي خاتمة السورة التي هما منها _وهي سورة النساء_ آياتُ علم الفرائض، وهو مُسْتَنبَطٌ مِن هذه الآيات، ومِن الأحاديث الواردة في ذلك مِمَّا هي كالتفسير لذلك، وكانت الوراثة في الجاهليَّة بالرجوليَّة والقوَّة، وكانوا يورِّثون الرجالَ دون النساء، وكان في ابتداء الإسلام أيضًا بالمحالفة قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني: الحلفاء {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}[النساء:33] فأعطوهم حظَّهم مِنَ الميراث، فصارت بعده بالهجرة، فنُسِخَ هذا كلُّه وصارت الوراثة بوجهين؛ بالنسب والسبب، فالسببُ النكاحُ والولاءُ، والنسبُ القرابةُ، وبحث ذلك في علم الفرائض، والذين لا يسقطون مِنَ الميراث أصلًا ستَّةٌ: الأبوان والولدان والزوجان، والذين لا يرثون أصلًا ستَّةٌ: العبد والمدبَّر والمكاتب وأمُّ الولد وقاتل العمد وأهل الملَّتين، وزاد بعضهم أربعةً أخرى؛ وهي التبنِّي، وجهالة الوارث، وجهالة تاريخ الموتى، والارتداد، وسيجيء تفسيرُ هذه الآيات وبيان سبب نزولها في الأبوابِ ذَكَرَها هنا، ولنذكُر بعض شيءٍ:
          فقوله: ({يُوصِيكُمُ اللهُ}) أي: يأمركم بالعدل ( / {فِي أَوْلَادِكُمْ})، وبذلك نَسَخَ ما كانت الجاهليَّة يمنعون توريث النساء، فجعل للذكر مثل حظِّ الأنثيين لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسُّب وتجشُّم المشقَّة.
          قوله: ({فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً}) أي: فإن كانت المتروكات نساءً ({فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}) يعني: اثنتين فصاعدًا، قيل: لفظ {فوق} صلةٌ؛ كقوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الَاعْنَاقِ}[الأنفال:12] وقيل: هذا غير مسلَّمٍ لا هنا ولا هناك، وليس في القرآن شيءٌ زائدٌ لا فائدة فيه.
          قوله: ({وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً}) أي: وإن كانت المتروكةُ واحدةً بنتًا كانت أو امرأةً، و{وَاحِدَةً} نصبٌ على أنَّهُ خبر {كانت} وقُرِئَ بالرفع على معنى: وإن وقعت واحدةٌ، فحينئذٍ لا خبر له؛ لأنَّ (كان) تكون تامَّةً.
          قوله: ({وَلَابَوَيْهِ}) أي: ولأبوي الميِّت، كناية عن غير مذكورٍ، والقرينة دالَّةٌ عليه.
          قوله: ({لِكُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا}) أي: مِنَ الأبوين ({السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ}) أي: الميِّت ({إِنْ كَانَ لَهُ}) أي: للميِّت ({وَلَدٌ})، وقوله: {وَلَدٌ} يشمل ولد الابن، والأب هنا صاحبُ فرضٍ.
          قوله: ({فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ}) أي: للميِّت ({وَلَدٌ}) والحال أنَّ أبويه يرثانه ({فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}) مِنَ التركة، ويُعلَم منه أنَّ الباقي وهو الثلثان للأب.
          قوله: ({فَإِنْ كَانَ لَهُ}) أي: للميِّت ({إِخْوَةٌ}) اثنين كانا أو أكثر، ذكرانًا أو إناثًا، ({فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}) هذا قول عامَّة الفقهاء، وكان ابن عَبَّاس ☻ لا يحجب الأمَّ عن الثلث إلى السدس بأقلَّ مِن ثلاثة أخوةٍ، وكان يقول في أبوين وأخوين: للأمِّ الثلث، وما بقي فللأب، اتَّبعَ ظاهرَ اللَّفظ.
          قوله: ({مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا}) أي: الميِّت.
          قوله: ({أَوْ دَيْنٍ}) أي: أو بعد دينٍ، أجمع العلماء سلفًا وخلفًا أنَّ الدَّين مقدَّم على الوصيَّة، ولكنَّ الدَّين على نوعين: دين الله ودين العباد، فدين الله إن لم يوص به يسقط عندنا، سواءٌ كان صلاةً أو زكاةً، ويبقى عليه المأثم والمطالبة يوم القيامة، وعند الشَّافِعِيِّ: يلزم قضاؤه كدين العباد، أوصى أو لا، وإنَّ بعض الدين أولى مِن بعضٍ، فدين الصِّحَّة وما ثبت بالمعاينة في المرض أو بالبيِّنة أولى مِمَّا يثبت فيه بالإقرار عندنا، وقال الشَّافِعِيُّ: دين الصِّحَّة وما أقرَّ به في مرضه سواءٌ، وما أقرَّ به فيه مُقدَّم على الوصيَّة، ولا يصحُّ إقراره فيه لوارثه بدَينٍ أو عينٍ عندنا، خلافًا له في أحد قوليه، إلَّا أن تجوِّز بقيَّة الورثة فيجوز، وإن اجتمع الدَّينان فدين العباد أولى عندنا، وعنده دين الله أولى، وعنه: أنَّهما سواءٌ، وأَمَّا الوصيَّة في مقدار الثلث فمُقدَّمة على الميراث بعد قضاء الديون، فلا يحتاج إلى إجازة الورثة.
          قوله: ({آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ}) أي: لا تدرون مَن [أنفعُ لكم مِن] آبائكم وأبنائكم الذين يموتون؟ أَمَن أوصى منهم أم مَن لم يوصِ؟ يعني: أنَّ مَن أوصى ببعض ماله فعرَّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيَّته؛ فهو أقربُ لكم نفعًا، قال مجاهدٌ: في الدنيا، وقال الحسن: لا تدرونَ أيُّهم أسعدُ في الدِّين والدنيا؟
          قوله: ({فَرِيضَةً}) نصبٌ على المصدر؛ أي: هذا الذي ذكرنا مِن تفصيل الميراث وإعطاء بعض الورثة أكثر مِن بعضٍ، هو فرضٌ مِنَ الله، حاصله: فَرَضَ اللهُ ذلك فريضةً وحَكَمَ به وقضاه، وهو العليم الحكيم الذي يضع الأشياء في محلِّها، ويعطي كلًّا ما يستحقُّه بحسبه.
          قوله: ({وَلَكُمْ}) أي: ولكم أيُّها الرجال ({نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}) إذا مُتنَ ولم يكن لهنَّ ولدٌ.
          قوله: ({وَلَهُنَّ}) أي: للزوجات، وسواءٌ في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان والثلاث والأربع يشتركن فيه.
          قوله: ({وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ}) فقوله: {يُورَثُ} صفةٌ لـ{رَجُلٌ} و({كَلَالَةً}) نصبٌ على أنَّهُ خبر {كَانَ} وهي مشتقَّةٌ مِنَ الإكليل؛ وهو الذي يحيط بالرأس مِن جوانبه، والمراد هنا: مَن يرثه مِن حواشيه، لا أصوله ولا فروعه، وهو مَن لا والد له ولا ولد، وهكذا قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابن مسعودٍ، وعبد الله بن عَبَّاسٍ، وزيد بن ثابتٍ ♥ ، وبه قال الشعبيُّ والنخعيُّ والحسن البَصْريُّ وقتادة وجابر بن زيدٍ والحكم، وبه يقول أهل المدينة، والكوفة، والبصرة، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئِمَّة الأربعة، وجمهور الخلف والسلف، بل جميعهم، وقد حكى الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ، وقال / طاووس: الكلالة: ما دون الولد، وقال عطيَّة: هو الإخوة للأمِّ، وقال عُبَيد بن عُمَيْر: هم الإخوة للأب، وقيل: هم الإخوة والأخوات، وقيل: هو ما دون الأب.
          قوله: ({أَوِ امْرَأَةٌ}) عطفٌ على {رَجُلٌ}.
          قوله: ({وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ}) ولم يقل: ولهما؛ لأنَّ المذكور الرجل والمرأة؛ لأنَّ العرب إذا ذكرت اسمين، وأخبرت عنهما، وكانا في الحكم سواء، ربَّما أضافت إلى أحدهما، وربَّما أضافت إليهما جميعًا، كما في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ}[البقرة:45].
          قوله: ({وَلَهُ أَخٌ}) أي: لأمٍّ ({أَوْ أُخْتٌ}) لأمٍّ، دليله قراءة سعد بن أبي وَقَّاصٍ ☺ : {وَلَهُ أُخٌ أَوْ أُخْتٌ مِن أُمٍّ}.
          قوله: ({فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}) بينهم بالسويَّة ذكورهم وإناثهم سواءٌ.
          قوله: ({أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ}) يعني: على الورثة، وهو أن يوصيَ بدينٍ ليس عليه، وروى ابن أبي حاتمٍ بإسناده إلى ابن عَبَّاسٍ عن النَّبِيِّ صلعم قال: «الإضرار في الوصيَّة مِنَ الكبائر»، وقال الزَّمَخْشَريُّ: قوله: {غَيْرَ مُضَارٍّ} حالٌ؛ أي: يوصي بها وهو غيرُ مضارٍّ لورثته، وذلك أن يوصيَ بزيادةٍ على الثلث.