عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

كتاب الحج
  
              

          ░░25▒▒ (ص) كِتَابُ الحَجِّ.
          (ش) أي: هذا كتابٌ في بيان الحجِّ، وقد ذكرنا في أَوَّل الكتاب أنَّ الكتاب يشمل الأبواب، والأبواب تشمل الفصول، ولم يقع في ترتيب البُخَاريِّ الفصول، وإِنَّما يوجد في بعض المَوَاضِع لفظة (باب) مجرَّدًا ويريد به الفصل عمَّا قبله، لكنَّه مِن جنسه، كما ستقف عليه في أثناء الكتاب.
          والكلام هنا على أنواعٍ:
          الأَوَّل: ذكر (كتاب الحجِّ) عقيب (كتاب الزكاة)، وكان المناسبَ ذكرُ (كتاب الصوم) عقيبَ (كتاب الزكاة) كما قدَّمه ابن بَطَّالٍ على (كتاب الحج) كما وَقَعَ في الخَمْسِ الَّذِي بُني الإِسْلَام عليه، ولكن لمَّا كان للحجِّ اشتراكٌ مع الزكاة في كونهما عبادةً ماليَّةً؛ ذكره عقيب الزكاة.
          فَإِنْ قُلْتَ: فعلى هذا كان ينبغي أن يذكر الصومَ عقيب الصلاة؛ [لأنَّ كلًّا منهما عبادة بدنيَّة.
          قُلْت: نعم؛ كان القياسُ يقتضي ذلك، ولكن ذُكِرت الزكاةُ عقيب الصلاة]
لأنَّها ثانيةُ الصلاة، وثالثةُ الإيمان في الكتاب والسُّنَّة.
          النوع الثَّانِي: أنَّهُ قد وَقَعَ فِي رِوَايَة الأَصِيلِيِّ: <كتاب المناسك> كما وَقَعَ هكذا في «صَحِيح مُسْلِم»، وَوَقَعَ فِي كتاب الطَّحَاويِّ: (كتاب مناسِكِ الحجِّ) وهو جمع (مَنسَك) بفتح السين وكسرها، وهو المُتعبَّد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثُمَّ سُمِّيت / أمورُ الحجِّ كلُّها مَناسِكَ، و(المنسَك) المَذبَح، وقد نَسَك يَنسُكُ نَسْكًا؛ إذا ذبح، والنَّسيكة: الذبيحة، وجمعها (نُسُك)، والنُّسُك أَيْضًا: الطاعة والعبادة وكلُّ ما تُقُرِّب به إلى الله ╡ ، والنُّسُك: ما أَمَرت به الشريعة، والورع: ما نهت عنه، و(النَّاسِك) العابد، وسُئِل ثعلبٌ عن النَّاسِك ما هو؟ فقال: هو مأخوذٌ مِنَ النَّسيكة؛ وهي سبيكة الفضَّة المصفَّاة، كأنَّ النَّاسِك صفَّى نفسه لله تعالى.
          النوع الثَّالِث: في معنى (الحجِّ) لغةً وشرعًا:
          أَمَّا لغةً فمعناه: القَصد، مِن حَجَجتُ الشيء أحجُّه حجًّا؛ إذا قصدتَه، وقال الأزهريُّ: وأصل «الحجِّ» مِن قولك: حَجَجتُ فلانًا أَحجُّه حجًّا؛ إذا عُدتَ إليه مَرَّةً بعد أخرى، فقيل: حَجُّ البيتِ؛ لأنَّ النَّاس يأتونه كلَّ سنة، ومنه قول المُخَبَّل السَّعدِيِّ:
وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَة                     يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
          يقول: يأتونه مَرَّةً بعد أخرى؛ لِسُؤدَدِهِ وسِبِّه عِمامتَه، وقال صاحب «العين»: السِّبُّ: الثوب الرقيق، وقيل: غلالة رقيقة يمنيَّة، و(الزِّبْرِقَانِ) بكسر الزَّاي وسكون الْبَاء المُوَحَّدة وكسر الرَّاء وبالقاف المُخَفَّفَة وَفِي آخِرِهِ نون، وهو في الأصل اسمُ القمر، ولُقِّب به الحُصَين؛ لصفرة عمامته.
          وأَمَّا شرعًا: الحجُّ قصدٌ إلى زيارة البيت الحرام على وجه التعظيم بأفعالٍ مخصوصة، وسَببه البيت؛ لأنَّه يضاف إليه؛ ولهذا لا يجب في العمر إلَّا مَرَّةً واحدة؛ لعدم تكرار السبب، و(الحَِجُّ) بفتح الحاء وكسرها، وقال الزجَّاج: يقرأ بفتح الحاء وكسرها؛ يعني: في القُرْآن، والأصل الفتح.
          قُلْت: قرئ بهما في السبعة، وأكثرهم على الفتح، وفي «أمالي الهجريِّ»: أكثر العرب يكسرون الحاء فقط، وقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: بفتح الحاء: القصد، وبالكسر: القوم الحُجَّاج، والحَجَّة؛ بالفتح: الفَعْلة مِنَ الحجِّ، وبكسر الحاء: التلبية والإجابة.
          قُلْت: يقال في الفَعْلة بالفتح: المرَّة، وبالكسر: الحالة والْهَيئَة.
          و(الحاجُّ) الَّذِي يحجُّ، وربَّما يُظهِرون التضعيفَ في ضرورة الشِّعر، قال:
          بكلِّ شيخٍ عامِرٍ أو حاجِجِ
          ويُجمَع على (حُجٌّ) بالضمِّ؛ نحو: (بَازل وبُزْل)، و(عَائِذ وعُوْذ).
          النوع الرَّابِع: في وقت ابتداء فرضه:
          فذكر القرطبيُّ أنَّ الحجَّ فُرِضَ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الهجرة، وقيل: سَنَةَ تِسْعٍ، قال: وهو الصَّحِيح، وذكر البَيْهَقيُّ أنَّهُ كان سَنَةَ سِتٍّ، وفِي حَدِيثِ ضِمام بن ثعلبة ذكر الحجِّ، وذكر مُحَمَّد بْن حَبِيب أنَّ قدومه كان سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الهجرة، وقال الطرطوشيُّ: وقد رُويَ أنَّ قدومه على النَّبِيِّ صلعم كان في سَنَةِ تِسْعٍ، وذكر الماورديُّ أنَّهُ فُرِضَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وقال إمام الحَرَمين: سَنَةَ تِسْعٍ أو عشر، وقيل: سَنَةَ سَبْعٍ، وقيل: كان قبل الهجرة، وهو شاذٌّ.