عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

المؤمن
  
              

          ░░░40▒▒▒ (ص) سُورَةُ الْمُؤْمِنُ
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة المؤمن)، وفي بعض النُّسَخ <المؤمن> بغير لفظ (سورة)، وفي بعضها: <سورة المؤمن حم>.
          (ص) ♫
          (ش) لم تثبت البسملة إلَّا لأبي ذرٍّ.
          وهي مَكِّيَّةٌ بلا خلافٍ، وقال السخاويُّ: نزلت بعد (الزُّمَر) وقبل (حم السجدة) وبعد (السجدة) (الشورى) ثُمَّ (الزخرف) ثُمَّ (الدخان) ثُمَّ (الجاثية) ثُمَّ (الأحقاف).
          وهي أربعة آلافٍ وتسع مئةٍ وستُّون حرفًا، وألفٌ ومئةٌ وتسعٌ وتسعون كلمةً، وخمسٌ وثمانون آية. /
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {حم} مَجَازُهَا مَجَازُ أَوَائِلِ السُّوَرِ.
          (ش) قوله: {حم} في محلِّ الابتداء و(مَجَازُهَا) مبتدأٌ ثانٍ، وقوله: (مَجَازُ أَوَائِلِ السُّوَرِ) خبرُه، والجملة خبرُ المبتدأ الأَوَّل، و(مجازها) بالجيم والزاي؛ أي: طريقها؛ أي: حكمها حكم سائر الحروف المقطَّعة التي في أوائل السُّوَر؛ للتنبيه على أنَّ هذا القرآنَ مِن جنس هذه الحروف.
          وقيل: لقرع العصا عليهم.
          وعن عِكْرِمَة قال: قال رسول الله صلعم : «{حم} اسمٌ مِن أسماء الله تعالى، وهي مفتاح خزائن ربِّك جلَّ جلاله».
          وعن ابن عَبَّاسٍ: هو اسم الله الأعظم، وعنه: قسمٌ أقسم الله به.
          وعن قتادة: اسمٌ مِن أسماء القرآن.
          وعن الشعبيِّ: شعار السورة.
          وعن عطاء الخراساني: الحاء: افتتاح أسماء الله تعالى؛ حليمٌ وحميدٌ وحَيٌّ وحنَّانٌ وحكيمٌ وحفيظٌ وحبيبٌ، والميم: افتتاح اسمه مالكٌ ومجيدٌ ومنَّانٌ.
          وعن الضَّحِّاك والكسائيِّ: معناه: قضى ما هو كائنٌ، كأنَّهما أرادا الإشارة إلى: (حُمَّ) بِضَمِّ الحاء وتشديد الميم.
          (ص) وَيُقَالُ: بَلْ هُوَ اسْمٌ لِقَوْلِ شُرَيْحِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الْعَبْسِيِّ:
يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ                     فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ
          (ش) القائلون بأنَّ لفظ: {حم} اسمٌ هم الذين ذكرناهم الآن، واستدلَّ على ذلك بقول الشاعر المذكور حيث وقع لفظ (حمَ) في الموضعين منصوبًا على المفعوليَّة، وكذا قرأ عيسى بن عُمَر، أعني: بفتح الميم، وقيل: يجوز أن يكون لالتقاء الساكنين.
          قُلْت: القاعدة أنَّ الساكن إذا حُرِّك حُرِّكَ بالكسر، ويجوز الفتح والكسر في الحاء، وهما قراءتان.
          قوله: (وَيُقَالُ) في رواية أبي ذرٍّ: <وقال البُخَاريُّ: ويقال>.
          قوله: (شُرَيْحِ بْنِ أَبِي أَوْفَى) هكذا وقع (ابن أبي أوفى) في رواية القابسيِّ، وليس كذلك بل هو شريح بن أوفى العَبْسِيُّ، وكان مع عليِّ بن أبي طالبٍ ☺ يوم الجمل، وكان شعار أصحاب عليٍّ ☺ يومئذٍ {حم}، فلمَّا نَهَدَ شريحٌ لمُحَمَّد بن طلحة بن عُبيد الله الملقَّب بالسَّجَّاد وطعنه قال: (حم)، فقال شريح: (يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ) الفاعل فيه مُحَمَّدٌ السَّجَّاد، قيل: لمَّا طعنه شريحٌ قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ}[غافر:28] فهو معنى قوله: (يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ).
          قوله: (وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ) جملةٌ اسْميَّةٌ وقعت حالًا، مِن شَجَر الأمر يشجر شجورًا، إذا اختلط، واشتجر القوم وتشاجروا؛ إذا تنازعوا واختلفوا، والمعنى هنا: والرمح مشتبك مختلط.
          قوله: (فَهَلَّا) حرف تحضيضٍ مختصِّ بالجمل الفِعْليَّة الخبريَّة، والمعنى: هلَّا كان هذا قبل تشاجر الرماح عند قيام الحرب.
          قوله: (قَبْلَ التَّقَدُّمِ) أي: إلى الحرب، وأَوَّل هذا البيت على ما ذكره الحسن بن المُظَفَّر النَّيْسَابُورِيُّ في «مأدبة الأدباء»:
وَأَشْعَثَ قَوَّامٍ بِآيَاتِ رَبِّهِ                     قَلِيلِ الأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ مُسْلِمِ
هَتَكْتُ بِصَدْرِ الرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ                     فَخَرِّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
عَلَى غَيْرِ شَيءٍ غَيرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا                     عَلِيًّا وَمَنْ لَا يَتْبَعِ الْحَقَّ يَظْلِمِ
يُذَكِّرِنُي حَامِيمَ...
          وذكر عُمَر بن شبَّة بإسناده عن مُحَمَّد بن إسحاق: أنَّ مالكًا الأشتر النَّخَعِيَّ قتل مُحَمَّد بن طلحة، وقال في ذلك شعرًا؛ وهو:
وَأَشْعَثَ قَوَّامٍ بِآيَاتِ رَبِّهِ... الأبيات.
          وذكر أبو مِخْنَف لوطٌ في كتابه «حَرْب الجمل»: الذي قتل مُحَمَّدًا مدلج بن كعبٍ رجلٌ مَن بني سعد بن بكرٍ، وفي «كتاب الزُّبَير بن أبي بكر»: كان مُحَمَّدٌ أمَرَتْه عائشةُ ♦ بأن يكفَّ يده، فكان كلَّما حمل عليه رجلٌ قال: نشدتُكَ بحاميم، حَتَّى شدَّ عليه رجلٌ مِن بني أسد بن خُزَيمة يقال له: حُدَير، فنشده بحاميم، فلم ينتهِ، وقتله، وقيل: قتله كعب بن مُدلِجٍ، مِن بني مُنقِذ بن طريف، ويقال: بل قتله عصام بن مقشعر النَّصْريُّ، وعليه كثرةُ الحديث، وقال المرزبانيُّ: هو الثَّبْت، وهو يخدش في إسناد البُخَاريِّ؛ لأنَّ هذين الإمامين إليهما يُرجَع في هذا الباب.
          قُلْت: الزَّمَخْشَريُّ العلَّامة ذكر هذا البيتَ في أَوَّل (سورة البقرة) ونسبه إلى شُرَيح بن أوفى المذكور، وفي «الحماسة البحتريَّة»: قال عَدِيُّ بن حاتمٍ:
مَنْ مُبْلِغٍ أَفْنَاءَ مَذْحِجَ أَنَّنِي                     ثَأَرْتُ بِخَالِي ثُمَّ لَمْ أَتَأَثَّمِ
تَرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ يَنُوءُ بِصَدْرِهِ                     بِصِفِّينَ مَخْضُوبَ الْكُعُوبِ مِنَ الدَّمِ
يُذَكِّرُنِي ثَأْرِي غَدَاةَ لَقِيتُهُ                     فَأَجْرَرْتُهُ رُمْحِي فَخَرَّ عَلَى الْفَمِ
يُذَكِّرُنِي يَاسِينَ حِينَ طَعَنْتُهُ                     فَهَلَّا تَلَا يَاسِينَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ
          (ص) / (الطَّوْلُ) التَّفَضُّلُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}[غافر:3] وفسَّره بـ(التَّفَضُّلِ) وكذا فسَّره أبو عُبَيْدةَ، وزاد: تقول العرب للرجل: إنَّهُ لذو طَول على قومه؛ أي: ذو فضل عليهم، وروى ابن أبي حاتمٍ مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: {ذِي الطَّوْلِ} قال: ذي السَّعَة والغنى، ومِن طريق عِكْرِمَة: ذي المنن، ومِن طريق قتادة، قال: ذي النعماء.
          (ص) {دَاخِرِينَ} خَاضِعِينَ.
          (ش) أشار به إلى قوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر:60] وفسَّره بقوله: (خَاضِعِينَ) وكذا فسَّره أبو عُبَيْدةَ، وعن السُّدِّيِّ: صاغرين.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِلَى النَّجَاةِ} إِلَى الإِيمَانِ.
          (ش) أي قال مجاهدٌ في قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}[غافر:41] وفسَّر قوله: ({إِلَى النَّجَاةِ}) بقوله: (إلى الإيمان).
          (ص) {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} يَعْنِي: للْوَثَنِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ}[غافر:43] وقال: ليس للوثن دعوة، هذا مَن تتمَّة كلام الرجل الذي آمن بموسى ◙ ، وهو الذي أخبر اللهُ تعالى عنه بقوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:38] وكان مِن آل فرعون يكتم إيمانَه منه ومِن قومه، وعن السُّدِّيِّ ومقاتلٍ: كان ابن عمِّ فرعون، وعن ابن عَبَّاسٍ: أنَّ اسمه حزقيل، وعن وَهْب بن مُنَبِّهٍ: خريبال، وعن ابن إسحاق: خربل، وقيل: حبيب.
          (ص) {يُسْجَرُونَ} تُوقَدُ بِهِم النَّارُ.
          (ش) أشار به إلى قوله ╡ : {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}[غافر:71-72] وفسَّره بقوله: (تُوقَدُ بِهِم النَّارُ)، وعن مجاهدٍ: يصيرون وقودًا في النار.
          (ص) {تَمْرَحُونَ} تَبْطَرُونَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ}[غافر:75] وفسَّره بقوله: (تَبْطَرُونَ) مِن البطر؛ بالباء المُوَحَّدة والطاء المُهْمَلة.
          (ص) وَكَانَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ يُذَكِّرُ النَّارَ، فَقَالَ رَجُلٌ: لِمَ تُقَنِّطُ النَّاسَ؟ قَالَ: وَأَنَا أَقْدِرُ أَنْ أُقَنِّطَ النَّاسَ وَاللهُ ╡ يَقُولُ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله} وَيَقُولُ: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}، وَلَكِنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ تُبَشَّرُوا بِالْجَنَّةِ عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِكُمْ، وَإِنَّما بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا صلعم مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَمُنْذِرًا بِالنَّارِ مَنْ عَصَاهُ.
          (ش) (الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ) بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف، العدويُّ البَصريُّ التَّابِعِيُّ الزاهد، قليلُ الحديث، وليس له في «البُخَاريِّ» ذِكرٌ إلَّا في هذا الموضع، مات قديمًا سنة أربعٍ وتسعين.
          قوله: (يُذَكِّرُ النَّارَ) وقال بعضهم: هو بتشديد الكاف.
          قُلْت: ليس بصحيحٍ، بل هو بالتخفيف على ما لا يخفى.
          قوله: (لِمَ تُقَنِّطُ النَّاسَ؟) مٍن التقنيط، مِن قنط يقنط قُنوطًا، وهو أشدُّ اليأس مِنَ الشيء، وأصل (لمَ) : (لِما)، فحُذِفَت الألف، وهي استفهامٌ.
          قوله: (أَنْ تُبَشَّرُوا) على صيغة المجهول، مِنَ التبشير.
          قوله: (وَمُنْذِرًا) ويروى: <ويُنذر>.
          قوله: (مَنْ عَصَاهُ) ويروى: <لمن عصاه>.