عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

{لا أقسم}
  
              

          ░░░90▒▒▒ (ص) سُورَةُ {لَا أُقْسِمُ}.
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}) ويقال لها أيضًا: (سورة البلد)، وهي مَكِّيَّةٌ، وهي ثلاثُ مئةٍ وعشرون حرفًا، واثنتان وثمانون كلمةً، وعشرون آيةً.
          (ص) قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} مَكَّةَ، لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ.
          (ش) أي: قال مُجاهدٌ في قوله ╡ : {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ. وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}[البلد:1-2] هي مكَّة، ويروى: <بِمَكَّةَ> ومعنى {حِلٌّ}: وأنت يا مُحَمَّد حلالٌ بهذا البلد في المستقبل تصنع فيه ما تريد مِنَ القتل والأسر، وذلك أنَّ الله ╡ أحلَّ لنبيِّه يوم الفتح حَتَّى قَتَل مَن قَتَل، وأخذ ما شاء وحرم ما شاء، فقَتَل ابن خَطَلٍ وأصحابه، وحرَّم دار أبي سفيان، وقال الواسطيُّ: المراد: المدينة، حكاه في «الشفا»، والأَوَّل أصحُّ؛ لأنَّ السورة مَكِّيَّةٌ، وروى قول مجاهدٍ: ({وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} مكَّة) الحَنْظَلِيُّ عن أحمد بن سنان الواسطيِّ: حَدَّثَنَا ابن مهديٍّ عن سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، وقاله أيضًا عطاءٌ وقتادة وابن زيدٍ، وروى قوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ مِنَ الإِثَمْ) الطَّبَريُّ عن ابن حُمَيدٍ: حَدَّثَنَا مِهْرَان عن سفيان، عن منصورٍ عنه، وعن مُحَمَّد بن عَمْرو: حَدَّثَنَا أبو عاصمٍ: حَدَّثَنَا عيسى، عن ورقاء، عن ابن أبي نَجيحٍ عنه.
          (ص) {وَوَالِدٍ} آدَمَ ◙ وَمَا وَلَدَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}[البلد:3] وفسَّر ذلك بقوله: آدَمَ وَمَا وَلَدَ؛ أي: آدم وأولاده، وقيل: إبراهيم ◙ ورسول الله صلعم ؛ لأنَّه مِن نسله، وعن عِكْرِمَة وسعيد بن جُبَيرٍ: الوالد: الذي يُولَد له، و{مَا وَلَد}: العاقر الذي لا يُولَد له، وهي روايةٌ عن ابن عَبَّاسٍ، وعلى هذا يكون {ما} نفيًا، وقال الثَّعْلَبيُّ: وهو بعيدٌ، ولا يصحُّ إلَّا بإضمارٍ، والصحيح عن ابن عَبَّاسٍ: ووالدٍ وولدِه.
          (ص) {لُبَدًا} كَثِيرًا.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا}[البلد:6] وفسَّر: ({لُبَدًا}) بقوله: (كَثِيرًا).
          قوله: ({يَقُولُ}) أي: الوليد بن المغيرة ({أَهْلَكْتُ}) أنفقت ({مَالًا لُّبَدًا} كثيرًا، بعضُه على بعض، في عداوة مُحَمَّدٍ صلعم ، و(اللُّبَد) مِنَ التلبُّد؛ وهو كون الشيء بعضه على بعضٍ، ومنه: اللَّبَد، وقُرِئ بتشديد الباء وتخفيفها.
          (ص) وَ{النَّجْدَيْنِ} الْخَيْرُ وَالشَّرُّ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:10] يعني: سبيل الخير وسبيل الشرِّ، وكذا روي عن مجاهدٍ وأكثر المفسِّرين على هذا، وعن ابن عَبَّاسٍ قال: {النجدين} الثديين، وإليه ذهب سعيد بن المُسَيَِّبِ والضَّحَّاك، والنجد في الأصل: الطريق في ارتفاعٍ.
          (ص) {مَسْغَبَةٍ} مَجَاعَةٍ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {أَوْ أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}[البلد:14] أي: مجاعةٍ.
          (ص) {مَتْرَبَةٍ} السَّاقِطُ فِي التُّرَابِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}[البلد:16] وفسَّره بقوله: (السَّاقِطُ فِي التُّرَابِ) وروى ابن عُيَيْنَة مِن طريق عِكْرِمَة عن ابن عَبَّاسٍ قال: [هو الذي ليس بينه وبين الأرض شيءٌ، وروى الحاكم مِن طريق حُصَينٍ عن مجاهدٍ عن ابن عَبَّاسٍ] قال: المطروح الذي ليس له بيتٌ.
          (ص) يُقَالُ: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} فَلَمْ يَقْتَحِمِ الْعَقَبَةَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ فَسَّرَ {الْعَقَبَةَ} فَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكَّ رَقَبَةً. أَوْ أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}.
          (ش) لمَّا ذكر (المسغَبة) و(المترَبة) شَرَع في بيان ما يُفعَل بذي مسبغةٍ وبذي متربةٍ، فقال: ({فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي: فَلَمْ يَقْتَحِمِ الْعَقَبَةَ فَي الدُّنْيَا) يعني: فلم يُجاوز هذا الإنسان العقبةَ فيأمَن، و(الاقتحام) الدخول والمجاوزة بشدَّةٍ ومشقَّةٍ، ثُمَّ عظَّم أمر العقبة فأشار إليه بقوله: ({وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}؟) وكلُّ شيءٍ قال: {وَمَا أَدْرَاكَ} فَإِنَّهُ أخبره به، وما قال: {وَمَا يُدْرِيكَ} فَإِنَّهُ لم يخبره به، ثُمَّ فسَّر {العقبة} بقوله: ({فَكَّ رَقَبَةٍ}...) إلى قوله: {مَتْرَبَةٍ} وشبَّه عِظَمَ الذنوب وثِقَلَها على مرتكبِها بعقبةٍ، فإذا أعتق / رقبةً أو عمل عملًا صالحًا؛ كان مَثَلُه مثل مَنِ اقتحم العقبةَ التي هي الذنوب حَتَّى يذهب ويذوب؛ كمِن يقتحم عقبةً فيستوي عليها ويجوزها، وذُكِر عن ابن عمر: أنَّ هذه العقبة جبلٌ في جهنَّم، وعن الحسن وقتادة: هي عقبةٌ في النَّار دون الجسر، فاقتحموها بطاعة الله تعالى، وعن مجاهدٍ والضَّحَّاك والكلبيِّ: هي الصراط يُضرَب على جهنَّم كحدِّ السيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلًا وصعودًا وهبوطًا، وأنَّ بجنبيه كلاليبٌ وخطاطيفُ كشوك السَّعدان، وعن كعبٍ: هي سبعون دركةً في جهنَّم.
          قوله: ({فَكَّ رَقَبَةً}) بدلٌ من {اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} ({أَوْ أَطْعَمَ}) عطفٌ عليه، وقوله: ({وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}) جملةٌ معترضةٌ، ومعنى {فَكَّ رَقَبَةً} أعْتَقَ رقبةً كانت فداءه مِنَ النار، وعن عِكْرِمَة: {فَكَّ رَقَبَةً} مِنَ الذنوب بالتوبة.
          قوله: ({أَوْ أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}) مجاعةٍ {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} أي: ذا قرابةٍ {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [قد لصِق بالتراب مِنَ الفقر، فليس له مأوًى إلَّا التراب، و(المسغَبَة) و(المقرَبَة) ] و(المترَبَة) (مَفْعَلَات) مِن (سَغِبَ) إذا جاع، و(قَرُب) في النسب، و(تَرُب) إذا افتقر، وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عَمْرٍو والكسائيُّ: {فَكَّ} بفتح الكاف و{أَطْعَمَ} بفتح الميم على الفعل؛ كقوله: {ثُمَّ كَانَ} والباقون بالإضافة على الاسم.