عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

{ن والقلم}
  
              

          ░░░68▒▒▒ (ص) سُورَةُ {ن وَالْقَلَمِ}.
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة {ن وَالْقَلَمِ}) ولم يقع لفظ: (سورة) إلَّا في رواية أبي ذرٍّ، قال مقاتلٌ: مَكِّيَّةٌ كلُّها، وذكر ابن النقيب عن ابن عَبَّاسٍ مِن أوَّلها إلى قوله: {سَنَسِمُهُ}[القلم:16] مَكِّيٌّ، ومِن بعد ذلك إلى قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[القلم:33] مدنيٌّ، وقال السَّخاويُّ: نزلت بعد «سورة المزَّمِّل» وقبل «المدَّثِّر»، وهي ألفٌ ومئتان وستَّةٌ وخمسون حرفًا، وثلاث مئة كلمةٍ، واثنتان وخمسون آية.
          واختلف المفسِّرون في معناه؛ فعن مجاهدٍ ومقاتلٍ والسُّدِّيِّ وآخرين: هو الحوت الذي يحمل الأرض، وهي روايةٌ عن ابن عَبَّاسٍ، واختُلِف في اسمه؛ فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ: بهموت، وعن الواقديِّ: ليوثا، وعن عليٍّ ☺ : بلهوت، وقيل: هي آخر حروف الرَّحْمَن، وهي روايةٌ عن ابن عَبَّاسٍ، قال: {الر} و{حم} و{ن} حروف الرَّحْمَن مقطَّعةٌ، وعن الحسن وقتادة والضَّحَّاك: النون: الدواة، وهي روايةٌ عن ابن عَبَّاسٍ أيضًا، وعن معاوية بن قُرَّةَ: لوحٌ مِن نورٍ رفعه إلى النَّبِيِّ صلعم ، وعن ابن كَيْسان: هو قسمٌ أقسم الله به، وعن عطاءٍ: افتتاح اسمِه نور وناصر ونصير، وعن جعفرٍ الصادق: نونٌ نهرٌ في الجنَّة.
          (ص) ♫
          (ش) لم تثبت البسملة إلَّا لأبي ذرٍّ. /
          (ص) وَقَالَ قَتَادَةُ: {حَرْدٍ} جِدٍّ فِي أَنْفُسِهِمْ.
          (ش) أشار به قتادة إلى قوله تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ}[القلم:25] وفسَّر قوله: ({حَرْدٍ}) بقوله: (جِدٍّ) بكسر الجيم وتشديد الدال، وهو الاجتهاد والمبالغة في الأمر، وقال ابن التين: وضُبِط في بعض الأصول بفتح الجيم، رواه عبد الرَّزَّاق في «تفسيره» عن معمرٍ عن قتادة، وقال الثعلبيُّ: على قُدرةٍ قادرين على أنفسهم، وعن النَّخَعِيِ ومجاهدٍ وعِكرمةَ: على أمرٍ مُجمَعٍ قد أسَّسوه بينهم، وعن سفيان: على حنقٍ وغضبٍ، وعن أبي عبيدة: على منعٍ.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَضَالُّونَ} أَضْلَلْنَا مَكَانَ جَنَّتِنَا.
          (ش) أي: قال ابن عَبَّاسٍ ☻ في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ}[القلم:26] أي: أضللنا مكان جنَّتنا، رواه ابن أبي حاتمٍ: مِن طريق ابن جُرَيْجٍ عن عطاءٍ عنه، والضمير في قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهَا} يرجع إلى {الجنَّة} في قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ}[القلم:17] يعني: امتحنَّا واختبرنا أهل مكَّة بالقحط والجوع ({كَمَا بَلَوْنَا}) أي: كما ابتلينا أصحاب الجنَّة، قال ابن عَبَّاسٍ: بستانٌ باليمن، يقال له: الضَّروان، دون صنعاء بفرسخين، وكانوا حلفوا ألَّا يَصرِمُنَّ نخلَها إلَّا في الظلمة قبل خروج الناس مِنَ المساكن إليها، فأرسلَ الله عليها نارًا مِنَ السماء، فأحرقتها وهم نائمون، فلمَّا قاموا وأَتَوا إليها ورأوها قالوا: إنَّا لضالُّون، وليست هذه جنَّتنا.
          قوله: (أَضْلَلْنَا) قال بعضهم: زعم بعض الشُّرَّاح: أنَّ الصواب في هذا أن يقال: ضللنا؛ بغير ألفٍ، تقول: ضللتُ الشيءَ إذا جعلتَه في مكانٍ ثُمَّ لم تدْرِ أين هو، وأضللتُ الشيءَ إذا ضيَّعتَه، ثُمَّ قال: والذي وقع في الرواية صحيحُ المعنى؛ أي: عَمِلنا عملَ مَن ضيَّع، ويحتمل أن يكون بِضَمِّ أَوَّل: أُضْلِلنا، انتهى.
          قُلْت: أراد بـ(بعض الشُّرَّاح) الحافظَ الدِّمْيَاطِيَّ فَإِنَّهُ قال هكذا، والذي قاله هو الصواب؛ لأنَّ اللُّغة تساعده، ولكنَّ الذي اختاره هذا القائل مِنَ الوجهين اللَّذين ذكرهما بعيدٌ جدًّا؛ أَمَّا الأَوَّل فليس بمطابقٍ لقول أهل الجنَّة، فإنَّ عملهم لم يكن إلَّا رَواحهم إلى جنَّتهم فقط، وليس فيه عملٌ بعمل مَن ضيَّع، وأَمَّا الثاني فبالاحتمال الذي لا يُقطَع، ولكن يقال في تصويب الذي وقع به الرواية: أضلَلْنَا أنفسَنا عن مكان جنَّتنا؛ يعني: هذه ليست بجنَّتنا بل تُهنا في طريقنا.
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: {كَالصَّرِيمِ} كَالصُّبْحِ انْصَرَمَ مِنَ اللَّيْلِ، وَاللَّيْلِ انْصَرَمَ مِنَ النَّهَارِ، وَهُوَ أيضًا: كُلُّ رَمْلَةٍ انْصَرَمَتْ مِنْ مُعْظَمِ الرَّمْلِ، وَالصَّرِيمُ أيضًا: الْمَصْرُومُ، مِثْلُ قَتِيلٍ وَمَقْتُولٍ.
          (ش) أي: قال غيرُ ابنِ عَبَّاسٍ في قوله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ}[القلم:20] أي: فأصبحت الجنَّة المذكورة كَالصَّرِيمِ، وفسَّره بقوله: (كَالصُّبْحِ انْصَرَمَ) أي: انقطع (مِنَ اللَّيْلِ...) إلى آخره ظاهرٌ.
          (ص) {تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} تَرْخُصُ فَيَرْخُصُونَ. {مَكْظُومٌ} وَكَظِيمٌ مَغْمُومٌ.
          (ش) هذا كلُّه للنَّسَفِيِّ، ولم يقع للباقين، وأشار بقوله ({تُدْهِنُ}) إلى قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} وفسَّره بقوله: (تَرْخُصُ فَيَرْخُصُونَ) وكذا روي عن ابن عَبَّاسٍ وعن عطيَّة والضَّحَّاك: لو تكفُر فيكفُرُون، وعن الكلبيِّ: لو تلين لهم فيلينون لك، وعن الحسن: لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم، وعن الحسن: لو تقاربهم فيقاربونك.
          وأشار بقوله: ({مَكْظُومٌ}) إلى قوله تعالى: {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}[القلم:48] وفسَّره بقوله: مَغْمُومٌ، وأشار أيضًا بأنَّ (مكظومٌ) و(كظيمٌ) سواءٌ في المعنى.