عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

سورة النحل
  
              

          ░░░16▒▒▒ (ص) سُورَةُ النَّحْلِ
          (ش) أي: هذا في تفسير بعض (سورة النحل) روى هَمَّامٌ عن قتادة: أنَّها مدنيَّةٌ، وروى سعيدٌ عنه: أوَّلٌها مَكِّيٌّ إلى قوله ╡ : {الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}[النحل:41] ومِن هنا إلى آخرها مدنيٌّ، وقال السُّدِّيَّ: مكيَّةٌ كلُّها إلَّا آيتين: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}[النحل:126]، وقال سفيان: إنَّها مكِّيَّةٌ، وقال القرطبيُّ: قال ابن عَبَّاسٍ: هي مَكِّيَّةٌ إلَّا ثلاث آياتٍ نزلن [بعد قتل حمزة ☺ : {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}... الآيات [النحل:95-97]، وفي روايةٍ: هي مكِّيَّةٌ إلَّا ثلاث آياتٍ نزلن] بين مكَّة والمدينة مُنصَرَف رسول الله صلعم مِن أُحُدٍ، وقال السخاويُّ: نزلت بعد (الكهف) وقبل (سورة نوح) ◙ ، وهي سبعة آلافٍ وسبع مئةٍ وسبعة أحرفٍ، وألفان وثمان مئة وإحدى وأربعون كلمة، ومئة وثماني وعشرون آية.
          (ص) ♫
          (ش) لم تثبت البسملة إلَّا في رواية أبي ذرٍّ.
          (ص) {رُوحُ الْقُدُسِ} جِبْرِيلُ ◙ ، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} الآية [النحل:102] وفسَّر: ({رُوحُ الْقُدُسِ}) بقوله: (جِبْرِيلُ ◙ ) وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ بإسنادٍ رجالُه ثقاتٌ عن عبد الله بن مسعودٍ ☺ ، وكذا روى الطَّبَريُّ مِن طريق مُحَمَّد بن كعبٍ القرظيِّ قال: ({رُوحُ الْقُدُسِ} جبريل ◙ ).
          وأضيف (الروح) إلى (القدس) وهو الطُّهر، كما يقال: حاتم الجود، وزيد الخير، والمراد: الروح القدس، وقال ابن الأثير: لأنَّه خُلِق مِن طهارةٍ، والروح في الحقيقة: ما يقوم به الجسد ويكون به الحياة، وقد أُطلِق على القرآن والوحيِ والرحمةِ وعلى جبريلَ ◙ .
          قوله: ({نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}) ذكره استشهادًا لصحَّة هذا التأويل، فإنَّ المراد به جبريل ◙ اتِّفاقًا، وكأنَّه أشار به إلى ردِّ ما رواه الضَّحَّاك عن ابن عَبَّاسٍ قال: {رُوحُ الْقُدُسِ} الاسم الذي كان عيسى ◙ يُحيِي به الموتى، رواه ابن أبي حاتمٍ بإسنادٍ ضعيفٍ، وقوله: {الأَمِينُ} وصفُ جبريلَ ◙ ؛ لأنَّه كان أمينًا فيما استُودِع مِنَ الرسالة إلى الرسل ‰ .
          (ص) {فِي ضَيْقٍ} يُقَالُ: أَمْرٌ ضَيْقٌ وَضَيِّقٌ، مِثْلُ: هَيْنٍ وَهَيِّنٍ، وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ، وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ.
          (ش) أشار بقوله: ({فِي ضِيْقٍ}) إلى قوله تعالى: {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}[النحل:127]، وأشار بقوله: (يُقَالُ: أَمْرٌ ضَيْقٌ وَضَيِّقٌ) إلى أنَّ فيه لغتين التشديد والتخفيف، كما ذكرهما في الأمثلة المذكورة، وقرأ ابن كثيرٍ هنا، وفي (النمل) بكسر الضاد، والباقون بفتحها، وقال الفَرَّاء: «الضَّيْق» بالتخفيف: ما ضاق عنه صدرك، و«الضيِّق» بالتشديد: ما يكون في الذي يتَّسع؛ مثل: الدار والثوب، ومعنى الآية: لا تُضَيِّق صدرك مِن مكرهم.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فِي تَقَلُّبِهِمْ} اخْتِلَافِهِمْ.
          (ش) أي: قال ابن عَبَّاسٍ في تفسير قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} (في اختلافهم) {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ}[النحل:46] بسابقي الله تعالى، وروى ذلك الطَّبَريُّ مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه، ورواه مُحَمَّد بن جريرٍ عن المُثَنَّى وعليِّ بن داود: حَدَّثَنَا أبو صالحٍ: حدَّثني معاوية، عن عليِّ بن أبي طلحة عنه، وقال الثعلبيُّ: معناه: أو يأخذهم العذاب في تصرُّفهم في الأسفار باللَّيل والنهار.
          (ص) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَمِيدَ} تَكَفَّأُ.
          (ش) أي: قال مجاهدٌ في تفسير: {تَمِيدَ} في قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} الآية [النحل:15] بقوله: (تَكَفَّأ) بالكاف وتشديد الفاء وبالهمزة، وقيل: بِضَمِّ أوَّله وسكون الكاف، ومعنى (تكفَّأ) : تقلَّب، وروى هذا التعليق أبو مُحَمَّد: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ: حَدَّثَنَا شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ.
          (ص) {مُفْرَطُونَ} مَنْسِيُّونَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ}[النحل:62] وفسَّر: ({مُفْرَطُونَ}) بقوله: (مَنْسِيُّونَ) وكذا رواه الطَّبَريُّ عن مُحَمَّد بن عَمْرٍو عن أبي عاصمٍ: حَدَّثَنَا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، وروى مِن طريق سعيد بن جُبَيرٍ قال: {مُفْرَطُونَ} أي: متروكون في النار منسيُّون فيها، / وقرأ الجمهور بتخفيف الراء وفتحها، وقرأ نافعٌ بكسرها، وهو مِنَ الإفراط، وقرأها أبو جعفر بن القعقاع بكسر الراء المشدَّدة؛ أي: مقصِّرون في أداء الواجب مبالِغون في الإساءة.
          (ص) وَقَالَ غَيْرُهُ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ}[النحل:98] هَذَا مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَمَعْنَاهَا: الاِعْتِصَامُ بِاللهِ.
          (ش) أي: قال غيرُ مجاهدٍ في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله} إنَّ فيه التقديم والتأخير؛ وذلك أنَّ الاستعاذة تكون قبل القراءة، والتقدير: فإذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله، هذا على قول الجمهور، حَتَّى قال صاحب «التوضيح»: هذا إجماعٌ إلَّا ما روي عن أبي هُرَيْرَة وداود ومالكٍ أنَّهم قالوا: إنَّ الاستعاذة بعد القراءة؛ أخذًا بظاهر الآية، وقد أبعد بعضهم هنا في موضعين؛ الأَوَّل: في قوله: (المراد بـ«الغير» أبو عُبَيْدةَ، فإنَّ هذا كلامه بعينه) وهذا فيه خبطٌ، والثاني: في قوله: (والتقدير: فإذا أخذت في القراءة فاستعذ، وقيل: هو على أصله لكنَّ فيه إضمارٌ؛ أي: إذا أردت القراءة)، وهذا يكاد أن يكون أقوى خباطًا مِنَ الأَوَّل، مَن يتأمَّل فيه يفهمه.
          قوله: (وَمَعْنَاهَا) أي: معنى الاستعاذة (الاِعْتِصَامُ بِاللهِ).
          (ص) {قَصْدُ السَّبِيلِ} الْبَيَانُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَعَلَى الله قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[النحل:9] وفسَّر: (القَصْد) بـ(الَبَيان)، كذا رُوي عن ابن عَبَّاسٍ، أخرجه الطَّبَريُّ مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة عنه، وقيل: {قَصْدُ السَّبِيلِ} بيان طريق الحكم لكم، والقصد: الطريق المستقيم، وقيل: بيان الشرائع والفرائض، وعن ابن المبارك: {قَصْدُ السَّبِيلِ} السُّنَّة.
          قوله: {وَمِنْهَا} أي: ومِنَ السبيل، والتأنيث باعتبار أنَّ لفظ {السبيل} واحدٌ، ومعناها الجمع.
          قوله: {جَائِرٌ} أي: معوجٌّ عن الاستقامة.
          (ص) (الدِّفْءُ) مَا اسْتَدْفَأْتَ بِهِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}[النحل:5] وفسَّر: (الدِّفْءُ) بقوله: (مَا اسْتَدْفَأْتَ بِهِ) يعني: مِنَ الأكسية والأبنية، قال الجَوْهَريُّ: الدفء: السخونة، تقول: منه دَفِئَ الرجلُ دَفاءَة؛ مثل: كَرِهَ كراهَةً، وكذلك دَفِئَ دَفَأً؛ مثل: ظَمِئ ظَمَأً، والاسم: الدفء، وهو الشيء الذي يدفئك، والجمع: الأدفاء، وفسَّر الجَوْهَريُّ: الدِّفْء في الآية المذكورة بقوله: الدفء: نتاج الإبل وألبانها، وما يُنتَفَع به منها، قال الله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}.
          (ص) {تُرِيحُونَ} بِالْعَشِيِّ، وَ{تَسْرَحُونَ} بِالْغَدَاةِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}[النحل:6] وفسَّر: أنَّ ({تُرِيحُونَ} بِالْعَشِيِّ) وأنَّ ({تَسْرَحُونَ} بِالْغَدَاةِ) وفي التفسير: أي: تردُّونها إلى مراحها، وهو حيث تأوي إليه، وحين تسرحون ترسلونها بالغداة إلى مراعيها، وقال قتادة: وأحسن ما يكون إذا راحت عظامًا ضروعها طوالًا أسنمتها.
          (ص) {بِشِقِّ} يَعْنِي: الْمَشَقَّةَ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ}[النحل:7] وفسَّر (الشِّقَّ) بـ(المشَقَّة)، وروى الطَّبَريُّ مِن طريق ابن أبي نَجيحٍ عن مجاهدٍ في قوله: {إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} أي: بمشقَّة الأنفس، وقراءة الجمهور بكسر الشين، وقرأها أبو جعفر بن القعقاع بفتحها، قال أبو عُبَيْدةَ: هما بمعنًى، وقال الفَرَّاء: معناهما مختلفٌ؛ فبالكسر المشقَّة، وبالفتح مِن الشَّقِّ في الشيء كالشَّقِّ في الجبل.
          (ص) {عَلَى تَخَوُّفٍ} تَنَقُّصٍ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {عَلَى تَخَوُّفٍ}[النحل:47] وفسَّره بقوله: (تَنَقُّصٍ) وكذا روي عن مجاهدٍ، رواه الطَّبَريُّ مِن طريق ابن أبي نَجيحٍ عنه، وروى ابن أبي حاتمٍ مِن طريق الضَّحَّاك عن ابن عَبَّاسٍ: {عَلَى تَخَوُّفٍ} قال: على تنقُّصِ مِن أعمالكم، وقيل: هو (تَفعُّلٌ) مِنَ الخوف.
          (ص) {الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} وَهْيَ تُؤَنَّثُ وَتُذَكَّرُ، وَكَذَلِكَ (النَّعَمُ) اِلأَنْعَامُ، جَمَاعَةُ النَّعَمِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِمَّا فِي بُطُونِهِ}[النحل:66].
          قوله: ({لَعِبْرَةً}) أي: لعظةً.
          قوله: {نُّسْقِيكُم} قُرئ بفتح النون وضمِّها، قيل: هما لغتان، وقال الكسائيُّ: تقول العرب: أسقيته لبنًا، إذا جعلته له سقيًا دائمًا، / فإذا أرادوا أنَّهم أعطَوه شربةً قالوا: سقيناه.
          قوله: {مِمَّا فِي بُطُونِهَ} ولم يقل: بطونها؛ لأنَّ الأنعام والنَّعَم واحدٌ، ولفظ: (النَّعم) مذكَّرٌ، قاله الفَرَّاء، فباعتبار ذلك ذكَّر الضمير.
          قوله: (وَهْيَ) أي: الأنعام (تُؤَنَّثُ وتُذَكَّر).
          قوله: (وَكَذَلِكَ النَّعَمُ) أي: تذكَّر وتؤنَّث، وقد ذكرنا الآن عن الفَرَّاء أنَّ (النَّعم) مذكَّرٌ ويُجمَع على (أنعام)، وهي الإبل والبقر والغنم.
          (ص) {سَرَابِيلَ} قُمُصٌ {تَقِيكُمُ الْحَرَّ}، وَأَمَّا: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} فَإِنَّهُا الدُّرُوعُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ [الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ}[النحل:81] وفسَّر ({سَرَابِيلَ}) الأَوَّلى بـ(القُمُص) بِضَمِّ القاف والميم، جمع (قميصٍ) مِن قطنٍ وكتَّانٍ وصوفٍ، و(السرابيل) الثانية: بـ(الدُّرُوع).
          قوله: ({تَقِيكُمُ الْحَرَّ}) ] أي: تحفظكم مِنَ الحرِّ، ومِنَ البرد أيضًا، وهذا مِن باب الاكتفاء.
          قوله: ({بَأْسَكُمْ}) أراد به شدَّة الطعن والضرب والرَّمْي.
          (ص) {دَخَلًا بَيْنَكُمْ} كُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَصِحَّ فَهْوَ دَخَلٌ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ}[النحل:92] وفسَّر (الدَّخَلَ) بقوله: (كُلُّ شَيْءٍ لَمْ يَصِحَّ فَهْوَ دَخَلٌ) وكذا فسَّره أبو عُبَيْدةَ، وكذلك (الدَّغَل) وهو الغشُّ والخيانة.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍٍ: {حَفَدَةً} مَنْ وَلَدَ الرَّجُلُ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً}[النحل:72] وذكر أنَّ (الحَفَدَةَ) : (مَنْ وَلَدَ الرَّجُلُ) هم وَلَدُه ووَلَدُ وَلَدِهِ.
          وهذا التعليق رواه الطَّبَريُّ مِن طريق سعيد بن جُبَيرٍ عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال: الولد وولد الولد.
          (ص) والسَّكَرُ: مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَهَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ: مَا أُحِلَّ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} الآية [النحل:67] وبيَّن (السَّكَر) بقوله: (مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرَهَا) أي: مِن ثمر النخيل والأعناب، ويُروى: <مِن ثمرتها> ويُروى: <ما حرَّم الله مِن ثمرٍها>، وبيَّن (الرِّزْقَ الحَسَنَ) المذكور في الآية بقوله: (وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ: مَا أُحِلَّ) أي: الذي جُعِل حلالًا، ويُروى: <ما أَحلَّ اللهُ> أي: ما أحلَّه الله، وقال الثعلبيُّ: قال قومٌ: السَّكَرُ: الخمر، والرزق الحسن: الخلُّ والرُّبُّ والتمر والزبيب، قالوا: وهذا قبل تحريم الخمر، وإلى هذا ذهب ابن مسعودٍ وابن عمر وسعيد بن جُبَير وإبراهيم والحسن ومجاهدٌ وابن أبي ليلى والكلبيُّ، وروايةٌ عن ابن عَبَّاسٍ قال: السَّكَرُ: ما حُرِّم مِن ثمرتيهما، والرزق الحسن: ما أُحِلَّ مِن ثمرتيهما، وقال قتادة: أَمَّا السَّكَرُ فخُمورُ هذه الأعاجم، وأَمَّا الرزق الحسن [فهو ممَّا ينتبذون وما يخلِّلون ويأكلون، قال: ونزلت هذه الآية وما حُرِّمتِ الخمر يومئذٍ، وإِنَّما نزل تحريمها بعدُ في «سورة المائدة»، وقال الثعلبيُّ: السَّكَرُ: ما شربتَ، والرزق الحسن]: ما أكلتَ، وعن ابن عَبَّاسٍ: الحبشة يُسَمُّون الخلَّ سَكَرًا.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ: {أَنْكَاثًا} هِيَ خَرْقَاءُ كَانَتْ إِذَا أَبْرَمَتْ غَزْلَهَا نَقَضَتْهُ.
          (ش) أي: قال سفيان (ابن عُيَيْنَةَ) عن (صَدَقَةَ) قال الكَرْمَانِيُّ: (صدقةُ هذا هو ابن الفضل المَرْوَزِيُّ)، ورُدَّ عليه بأنَّ صدقة بن الفضل المَرْوَزِيَّ شيخ البُخَاريِّ، وهو يروى عن سفيان بن عُيَيْنَةَ، وههنا يروي سفيانُ عن صدقةَ، والدليل على عدم صحَّة قوله: إنَّ صدقةَ هذا روى عن السُّدِّيَّ، وصدقة بن الفضل المَرْوَزِيُّ ما أدرك السُّدِّيَّ ولا أصحاب السُّدِّيَّ، وروى ابن أبي حاتمٍ عن أبيه عن ابن أبي عمر العَدَنيِّ، والطَّبَريُّ مِن طريق الحُمَيْديِّ؛ كلاهما عن ابن عُيَينة عن صدقة عن السُّدِّيَّ قال: كانت بِمَكَّةَ امرأةٌ تُسمَّى خرقاء... فذكر مثل ما ذكره البُخَاريُّ، والظاهر أنَّ صدقة هذا هو أبو الهُذَيل، روى عن السُّدِّيَّ قوله، وروى عنه ابن عيينة، كذا ذكره البُخَاريُّ في «تاريخه».
          قوله: ({أَنْكَاثًا}) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}[النحل:92] قال الزَّمَخْشَريُّ: أي: لا تكونوا في نقض الإيمان كالمرأة التي أَنْحَت على غزلها بعد أن أحكمته وأبرمته فجعلته أنكاثًا، جمع (نكث) وهو ما يُنْكَث فتله، وقال ابن الأثير: النَّكْث: نقض العهد، والاسم: النِّكث؛ بالكسر، وهو الخيط / الخَلِق مِن صوفٍ أو شعرٍ أو وبرٍ، سُمِّي به لأنَّه يُنقَض ثُمَّ يُعَاد فتله.
          قوله: (هِيَ خَرْقَاءُ) الضمير يرجع إلى تلك المرأة التي تُسمَّى خرقاء، وذكر {أنكاثًا} يدلُّ عليه، فلا يكون داخِلًا في الإضمار قبل الذِّكر، وكانت إذا أبرمت _أي: إذا أحكمت غزلَها_ نقضته، فلذلك قيل: خرقاء؛ أي: حمقاء، وفي «غُرَر التبيان»: كانت تغزل هي وجواريها مِنَ الغداة إلى نصف النهار، ثُمَّ تأمرهنَّ فينقضْنَ جميعًا ما غزلْنَ، هذا دأبُها، لا تكفُّ عن الغزل ولا تُبقِي ما غَزَلَتْ، وروى الطَّبَريُّ مِن طريق سعيدٍ عن قتادة قال: هو مَثَلٌ ضربه الله تعالى لمن يَنكثُ عهدَه، وقال مُقاتلٌ في «تفسيره»: هذه المرأة قرشيَّةٌ، اسمها رَيْطة بنت عَمْرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّة، وتُلقَّب جِعرانة؛ لحُمقِها، وذكر السُّهَيلي: أنَّها بنت سعد بن زيد مَناة بن تميم بن مُرٍّ، وقال الثعلبيُّ: كانت اتَّخذت مِغزَلًا بقدر ذِراعٍ، وصنَّارة مثل الإصبع، وفَلكةً عظيمةً على قدرهما، وكانت تغزِل الغَزل مِنَ الصوف والوبَر والشَّعَر، وتأمر جواريها بذلك، وكنَّ يغزلْنَ إلى نصف النهار، ثُمَّ تأمرهنَّ بنقض جميع ذلك، فهذا كان دأبها.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ☺ : (الأُمَّةُ) مُعَلِّمُ الْخَيْرِ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ}[النحل:120]، وقال عبد الله بن مسعودٍ في تفسير (الأُمَّة) أنَّه (مُعَلِّمُ الخَيْر) وكذا رواه الحاكم مِن حديث مسروقٍ عن عبد الله، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، وعن مجاهدٍ: كان مؤمنًا وحده، والناس كلُّهم كفَّارٌ، وعن قتادة: ليس مِن أهل دينٍ إلَّا ويتولَّونه ويرضونه، وعن شهر بن حَوْشَبٍ: لا تخلو الأرض إلَّا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض ويخرج بركتها إلَّا زمان إبراهيم ◙ ، فَإِنَّهُ كان وحده، انتهى.
          (الأمَّة) لها معانٍ أُخَرُ: القرن مِنَ الناس والجماعة والدين والحين والواحد الذي يقوم مقام جماعةٍ.
          (ص) وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ.
          (ش) هو مِن تتمَّة كلام ابن مسعودٍ، فَإِنَّهُ فسَّر (القَانِت) في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا}[النحل:120] بـ(المُطِيع)، وكذلك أخرجه ابن مردويه في «تفسيره».
          (ص) {أكْنانًا} واحِدُها: كِنٌّ؛ مِثْلُ: حِمْلِ وأحْمَالٍ.
          (ش) أشار به إلى قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا}[النحل:81]، وفسَّر قتادة: ({أكْنانًا}) بقوله: غيرانًا مِن الجبال يُسكَن فيها، وقال البُخَاريُّ: واحد (الأكنان) : (كِنٌّ) بكسر الكاف (مِثْلُ: حِمْل) بكسر الحاء المُهْمَلة، واحدُ (الأَحْمَال) و(الكِنُّ) كلُّ شيءٍ وقى شيئًا وسَتَره، وفي بعض النُّسَخ وقع هذا عقيب قوله: (جَمَاعَةُ النَّعَمِ).