إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

معلق أبي عاصم: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك

          1536- وبالسَّند قال: (قَالَ أَبُو عَاصِمٍ) الضَّحَّاك بن مخلدٍ النَّبيل، كذا أورده(1) بصيغة التَّعليق، وبه جزم الإسماعيليُّ وأبو نُعيمٍ، وقِيلَ: إنَّه وقع في نسخةٍ أو روايةٍ: ”حدَّثنا أبو عاصمٍ“ قال: (أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك قال: (أَخْبَرَنِي) بالإفراد (عَطَاءٌ) هو ابن أبي رباحٍ: (أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى أَخْبَرَهُ: أَنَّ) أباه (يَعْلَى) يعني: ابن أميَّة التَّميميَّ، المعروف بابن مُنْيَة؛ بضمِّ الميم وسكون النُّون وفتح التَّحتيَّة وهي أمُّه، وقيل: جدَّته (قَالَ لِعُمَرَ) بن الخطَّاب ( ☺ : أَرِنِي النَّبِيَّ صلعم حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ صلعم بِالجِعْـِرَانَةِ) بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الرَّاء، كما ضبطه جماعةٌ من اللُّغويِّين ومحقِّقي المحدِّثين، ومنهم من ضبطه بكسر العين وتشديد الرَّاء، وعليه أكثر المحدِّثين، قال صاحب «المطالع»: أكثر المحدِّثين يشدِّدونها، وأهل الأدب يخطِّئونهم ويخفِّفونها، وكلاهما صوابٌ (وَمَعَهُ / ) ╕ (نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ) جماعةٌ منهم، والواو للحال، وكان ذلك في سنة ثمانٍ، وجواب «بينما» قوله: (جَاءَهُ رَجُلٌ) قال الحافظ ابن حجرٍ: لم أعرف اسمه، لكن ذكر ابن فتحون في «الذَّيل» عن «تفسير الطُّرطوشيِّ» أنَّ اسمَه: عطاءُ ابن منية‼، قال ابن فتحون: فإن ثبت ذلك فهو أخو يعلى الرَّاوي (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهْوَ مُتَضَمِّخٌ) بالضَّاد والخاء المعجمتين، أي: متلطِّخٌ(2) (بِطِيبٍ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صلعم سَاعَةً، فَجَاءَهُ الوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ ☺ إِلَى يَعْلَى، فَجَاءَ يَعْلَى وَعَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ) بضمِّ الهمزة وكسر الظَّاء المعجمة مبنيًّا للمفعول، والنَّائب عن الفاعل ضميرٌ يعود على النَّبيِّ صلعم ، أي: جُعِل الثَّوب له كالظُّلَّة يستظلُّ به(3) (فَأَدْخَلَ) يعلى (رَأْسَه) ليراه ╕ حال نزول الوحي، وهو محمولٌ على أنَّ عمر ويعلى عَلِمَا أنَّه صلعم لا يكره الاطِّلاع عليه في ذلك الوقت لأنَّ فيه تقوية الإيمان بمشاهدة حال الوحي الكريم (فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلعم مُحْمَرُّ الوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ) بغينٍ معجمةٍ مكسورةٍ وطاءٍ مهملةٍ مُشدَّدةٍ من الغطيط؛ وهو صوت النَّفَس المتردِّد من النَّائم من شدَّة ثقل الوحي (ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ) ╕ ؛ بسينٍ مهملةٍ مضمومةٍ وراءٍ مُشدَّدةٍ، أي: كُشِف عنه شيئًا فشيئًا، ورُوِي بتخفيف الرَّاء، أي: كُشِف عنه ما يتغشَّاه من ثقل الوحي، يُقال: سروتُ الثَّوب وسَرَيْتُه: نزعته، والتَّشديد أكثر لإفادة التَّدريج (فَقَالَ: أَيْنَ الَّذِي سَأَلَ عَنِ العُمْرَةِ؟ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ) ╕ : (اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) استُدِلَّ به على منع استدامة الطِّيب بعد الإحرام، للأمر بغسل أثره من الثَّوب والبدن لعموم قوله: «اغسل الطِّيب الذي بك» وهو قول مالكٍ ومحمَّد بن الحسن، وأجاب الجمهور بأنَّ قصَّة يعلى كانت بالجعرانة سنة ثمانٍ بلا خلافٍ _كما مرَّ_ وقد ثبت عن عائشة [خ¦5930]: أنَّها طيَّبته صلعم بيدها في حجَّة الوداع سنة عشرٍ بلا خلافٍ، وإنَّما يؤخذ بالآخِر فالآخر من الأمر، والظَّاهر أنَّ العامل في «ثلاثَ مرَّاتٍ» أقرب الفعلين إليه وهو «اغسل»، وعليه فيكون قوله: «ثلاثَ مرَّاتٍ» من جملة مقول النَّبيِّ صلعم ، وهو نصٌّ في تكرار(4) الغسل، ويحتمل أن يكون العامل فيه «قال» أي: قال له النَّبيُّ صلعم : ثلاث مرَّاتٍ اغسل الثَّوب(5)، فلا يكون فيه تنصيصٌ على أمره بثلاث غسلاتٍ؛ إذ ليس في قوله: «اغسل الطِّيب» تصريحٌ بالغسلات الثَّلاث لاحتمال كون المأمور به غسلةً واحدةً، لكنَّه أكَّد في شأنها، وعلى الأوَّل فهمه ابن المُنيِّر، فإنَّه قال: في الحديث ما يدلُّ على أنَّ المعتبرَ في هذا الباب ذهابُ الجرم الظَّاهر لا الأثر بالكلِّيَّة لأنَّ الصِّباغ لا يزول لونه ولا رائحته بالكلِّيَّة بثلاث مرَّاتٍ، فعلى هذا من غسل الدَّم من ثوبه لم يضرَّه بقاء طبعه. انتهى. لكن لو كان في الحديث ما يدلُّ على أنَّ الخلوق كان في الثَّوب أمكن ما قاله‼، ولكنَّ ظاهره أنَّ الخلوق كان في بدنه لا في ثيابه لقوله: «وهو متضمِّخٌ بطيبٍ»، وإذا كان الخلوق في البدن أمكن أن تزول رائحته ولونه بالكلِّيَّة بغسله ثلاث مرَّاتٍ؛ لأنَّ علوق الطِّيب بالبدن أخفُّ من علوقه بالثَّوب، قاله في «المصابيح».
          (وَانْزِعْ عَنْكَ الجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ) وللكُشْمِيْهَنِيِّ: ”ما تصنع في حجِّك“ بإسقاط كاف «كما» وتاء «حجَّتك»، وفيه: دلالةٌ على أنَّه كان يعرف أعمال(6) الحجِّ قبل ذلك، وعند مسلمٍ والنَّسائيِّ من طريق سفيان عن عمرو بن دينارٍ عن عطاءٍ في هذا الحديث، فقال: «ما كنتَ صانعًا في حجِّك؟ قال: أنزع عنِّي هذه الثِّياب، وأغسل عنِّي هذا الخلوق، فقال: ما كنت صانعًا في حجِّك فاصنعه في عمرتك» أي: فلمَّا ظنَّ أنَّ العمرة ليست كالحجِّ قال له: إنَّها كالحجِّ في ذلك، وقد تبيَّن(7) أنَّ المأمور به في قوله: «اصنع» الغسلُ والنَّزعُ.
          قال ابن جريجٍ: (قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ) ╕ (الإِنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ) ╕ (أَنْ يَغْسِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: نَعَمْ) أراد الإنقاء، وهو يؤيِّد الاحتمال الأوَّل، وهو أن يكون(8) «ثلاث مرَّاتٍ» معمولًا لـ «اغسل»، وأنَّه من كلام النَّبيِّ / صلعم ، وقال الإسماعيليُّ: ليس في الخبر أنَّ الخلوق كان على الثَّوب كما في التَّرجمة، وإنَّما فيه أنَّ الرَّجل كان متضمِّخًا، ولا يُقال لمن طيَّب ثوبه أو صبغه به: متضمِّخٌ(9)، وقوله صلعم : «اغسل الطِّيب الذي بك» يبيِّن أنَّ الطِّيب لم يكن في ثوبه، ولو كان على الجبَّة لكان في نزعها كفايةٌ من جهة الإحرام. انتهى. يعني: فليس بين(10) الحديث والتَّرجمة مطابقةٌ، وأُجيب بأنَّ المؤلِّف جرى على عادته أن يشير إلى ما وقع في بعض طرق الحديث الذي يورده، وقد أورده في «محرَّمات الإحرام»(11) [خ¦1847] من وجهٍ آخر بلفظ: «عليه قميصٌ فيه أثر صُفْرَةٍ» والخلوق في العادة إنَّما يكون في الثَّوب، ولأبي داود الطَّيالسيِّ في «مُسنَده» عن شعبة عن قتادة عن عطاءٍ: رأى النَّبيُّ صلعم (12) رجلًا عليه جبَّةٌ، عليها أثر خلوقٍ، ولـ «مسلمٍ» مثله من طريق رباح بن أبي معروفٍ عن عطاءٍ.
          ورواة حديث الباب مكِّيُّون إلَّا شيخ المؤلِّف عاصم النَّبيل فبصريٌّ، وفي سنده(13) انقطاعٌ إلَّا إن كان صفوان حضر مراجعة يعلى وعمر، فيكون متَّصلًا؛ لأنَّه قال: «أنَّ يعلى» ولم يقل: إنَّ يعلى أخبره أنَّه قال لعمر.
          وأخرجه أيضًا في «فضائل القرآن» [خ¦4985] و«المغازي» [خ¦4329]، ومسلمٌ في «الحجِّ»، وكذا أبو داود والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ.


[1] في (د) و(م): «أتى».
[2] في (د): «مُلطَّخٌ».
[3] «به»: ليس في (م).
[4] في (ب) و(س): «تكرُّر».
[5] في (ب) و(س): «الطِّيب».
[6] في (د): «أفعال».
[7] في (د) و(م): «فتبيَّن».
[8] «يكون»: ليس في (ص).
[9] في (ص): «مُضمَّخٌ»، وفي (م): «تضمَّخ».
[10] في (م): «في».
[11] في «باب إذا أحرم جاهلاً وعليه قميص».
[12] «النَّبيُّ صلعم »: ليس في (ص) و(م).
[13] في (د): «مسنده»، وهو تحريفٌ.