عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الغيرة
  
              

          ░107▒ (ص) بابُ الْغَيْرَةِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان الغَيْرَة؛ بفتح الغين المُعْجَمة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الراء، قال صاحب «المحكَم»: مِن غار الرجل على المرأة، والمرأة على بعلها، يغار غَيرةً وغَيرًا وغارًا وغِيارًا، ورجلٌ غَيران، والجمع: (غَيارَى) و(غيارِي) ورجلٌ غَيورٌ، والجمع (غُيُرٌ) بِضَمِّ الياء، ومَن قرأ: {رُسْل} قال: (غِير)، ويقال: امرأةٌ غَيرى وغَيور، والجمع كالجمع، والمِغيار: شديد الغَيرة، وفلان لا يتغيَّر على أهله؛ أي: لا يغار، وقال الجَوْهَريُّ نحوه، إلَّا أنَّهُ لم يقل في المصادر: (غِيارًا) وزاد بعد قوله: (رجلٌ مِغيارٌ) : (وقومٌ مَغايِير)، وزاد صاحب «المشارق» في اسم الفاعل منه: رجلٌ غائرٌ، وقال: معنى الغَيرة: تغيُّر القلب، وهيَجان الحفيظة؛ بسبب المشاركة في الاختصاص من أحد الزوجين بالآخَر أو بِحَريمِه وذبِّه عنهم، وقال صاحب «النهاية»: الغَيرة هي الحَمِيَّة والأَنفة، وقال عياضٌ: «الغيرة» مشتقَّةٌ مِن تغيُّر القلب وهيَجان الغضب؛ بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشدُّ ذلك ما يكونُ بين الزوجين، هذا كلُّه في حقِّ الآدميِّ، وأَمَّا في حقِّ الله تعالى فيأتي عن قريبٍ في حديث الباب.
          (ص) قَالَ وَرَّادٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؛ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي».
          (ش) مطابقَتُه للتَّرجَمة ظاهِرةٌ.
          و(وَرَّادٌ) بفتح الواو والراء المشدَّدة وبالدال المُهْمَلة، اسمٌ لمولى المُغِيرَة بن شعبة وكاتبه، و(سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) بِضَمِّ العين المُهْمَلة وتخفيف الباء المُوَحَّدة، ابن دُلَيمٍ الخزرجيُّ الساعديُّ، نقيب بني ساعدة، قيل: شهد بدرًا، نزل الشام فأقام بحوران إلى أن مات سنة خمس عشرة، وقيل: قبره بالمنيحة؛ قريةٍ مِن قرى غوطة دمشق.
          ووصل البُخَاريُّ هذا المعلَّق الذي ذكره هنا مختصرًا في (كتاب الحدود) عن موسى بن إسماعيل عن أبي عَوَانَة عن عبد الملك بن عُمَيْرٍ عن ورَّادٍ، وأخرجه مسلمٌ مِن حديث سليمان بن بلالٍ عن سُهَيلٍ عن أبيه عن أبي هُرَيْرَة.
          قوله: (غَيْرَ مُصْفَحٍ) بِضَمِّ الميم وسكون الصاد المُهْمَلة وفتح الفاء وكسرها؛ أي: غير ضاربٍ بعَرْضه، بل بحَدِّه؛ تأكيدًا لبيان ضربه به لقتله، قال عياضٌ: فمَن فتحه جعله وصفًا للسيف وحالًا منه، ومَن كسره جعله وصفًا للضارب وحالًا منه، يقال: أصفحتُ بالسيف؛ إذا ضربتَ بعَرضِه، [وقال ابن قُتيبة: أصفحتُ بالسيف، فأنا مُصفِحٌ، والسيف يُصفَحُ به؛ إذا ضربت بعرضه]، وقال ابن التين: «مصفَّح» بتشديد الفاء في سائر الأمَّهات، وللسيف صفحتان؛ وهما وجهاه العريضان، وله حدَّان، فالذي يضرب بالحدِّ يقصد القتلَ، والذي يضرب بالصَّفح يقصد التأديبَ، ووقع في رواية مسلمٍ: (غير مصفِّحٍ عنه)، قال بعضهم: هذه يترجَّح فيها كسرُ الفاء، ويجوز الفتحُ أيضًا على البناء للمجهول.
          قُلْت: قوله: (على البناء / للمجهول) غلطٌ فاحشٌ، والصواب أن يُقال: على البناء للمفعول، وقد يُفرِّق بينهما مَن له أدنى مُسْكةٍ في علم التصريف.
          قوله: (أَتَعْجَبُونَ؟) الهمزة فيه للاستفهام، يجوز أن يكون على سبيل الاستخبار، ويجوز أن يكون على سبيل الإنكار؛ يعني: لا تعجبوا مِن غَيرة سعدٍ، فَأَنَا (أَغْيَرُ مِنْهُ) أي: مِن سعد، واللام في قوله: (لَأَنَا) للتأكيد، وأكَّده باللام وبالجملة الاسْميَّة.
          قوله: (وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي) قد ذكرنا الآن معنى غَيرة العبد، وأَمَّا معنى غَيرة الله تعالى؛ فالزجرُ عن الفواحش، والتحريم لها، والمنع منها؛ لأنَّ الغَيور هو الذي يزجُر عمَّا يُغار عليه، وقد بيَّن ذلك بقوله صلعم : «ومِن غَيرته حرَّم الفواحشَ» أي: زجر عنها، ومنع منها، وقال صلعم : «غيرةُ الله ألَّا يأتيَ المؤمن ما حرَّم الله عليه».
          ومعنى حديث سعدٍ: أنا أَزجَرُ عن المحارم منه، والله أزجَرُ منِّي، واستدلَّ ابن الموَّاز مِنَ المالكيَّة بحديث سعدٍ هذا أنَّهُ إن وقع ذلك ذهبَ دمُ المقتول هدرًا، وسيأتي الكلام فيه في (باب الحدود)، وقيل: الغَيرة محمودةٌ ومذمومةٌ، وقد جاءت التفرقة بينهما في حديث جابر بن عَتيكٍ [وعقبة بن عامرٍ؛ فحديث جابر بن عَتيكٍ رواه أحمد في «مسنده» وأبو داود والنَّسائيُّ وابن حِبَّان في «صحيحه» مِن رواية يحيى بن أبي كثير عن مُحَمَّد بن إبراهيم عن ابن جابر بن عَتيكٍ] الأنصاريِّ عن جابر بن عتيكٍ: أنَّ رسول الله صلعم قال: «إنَّ مِنَ الغيرة ما يحبُّ الله، ومنها ما يبغض الله، وإنَّ مِنَ الخُيَلاء ما يحبُّ الله ومنها ما يبغض الله؛ فأَمَّا الغَيرة التي يحبُّها الله فالغيرة في الريبة، وأَمَّا الغَيرة التي يبغض اللهُ فالغَيرة في غير الريبة...»، وابنُ جابر بن عَتيك هذا قال المِزِّيُّ في «التهذيب»: لعلَّه عبد الرَّحْمَن، وقال شيخنا: ليس هو عبد الرَّحْمَن، وإِنَّما هو أبو سفيان بن جابر بن عتيك، لم يُسمَّ، وقد بيَّن ذلك ابن حِبَّان في «صحيحه» وذكره في «الثقات».
          وحديث عُقْبَة بن عامر ☺ رواه أحمد في «مسنده» قال: حَدَّثَنَا عبد الرزَّاق: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عن يحيى بن أبي كثيرٍ عن زيد بن سلام عن عبد الله بن زَيدٍ الأزرق عن عُقْبَة بن عامر الجُهَنِيِّ قال: قال رسول الله صلعم : «غيرتان؛ إحداهما يحبُّها الله ╡ ، والأخرى يبغضها الله ╡ ؛ الغَيرة في الريبة يحبُّها اللهُ، والغَيرة في غيرها يبغضها الله...» الحديث، وقال شيخنا: لكنَّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فرُبَّ رجلٍ شديد التخيُّل فيظنُّ ما ليس بريبةٍ ريبةً، وربَّ رجلٍ متساهل في ذلك فيحمل الرِّيبة على محملٍ يُحسِّن به ظنَّه.