عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة؟
  
              

          ░76▒ (ص) باب هَلْ يَرْجِعُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِي الدَّعْوَةِ؟
          (ش) أي: هذا بابٌ فيه: هل يرجع المدعوُّ إذا رأى شيئا منكرًا في مجلس الدَّعوة؟ وإِنَّما ذكره بالاستفهام لمكانِ الخلاف فيه، ولم يُشِر في الباب إلى ذلك، وإِنَّما المذكور في الباب أنَّهُ إذا رأى منكرًا يرجع.
          قُلْت: قال صاحب «الهداية»: إجابة الدَّعوة سُنَّة، فلا يتركها لِما اقترن بها من البدعة من غيرها؛ يعني: لا يترك السُّنَّة لأجل حرامٍ اقترن بها، وهو في غيرها كصلاة الجنازة واجبُ الإقامة وإن حضرتها نياحة؛ يعني: لا تُترَك لأجل النياحة التي في غيرها، فإن قدر على المنع مَنَعهم؛ يعني: إذا كان صاحبَ شوكة، أو كان ذا جاهٍ، أو كان عالمًا مُقتدًى مسموعَ الكلمة؛ فَإِنَّهُ يجب عليه المنع، وإن لم يقدر يصبِرْ ولا يخرج؛ لِما قلنا، وإن كان المنكَر على المائدة؛ لا يقعد وإن لم يكن مقتدًى، وهذا كلُّه بعد الحضور، ولو علم قبل الحضور لا يحضر؛ لأنَّ إجابة الدعوة إِنَّما تلزم إذا كانت على وجه السنَّة.
          (ص) وَرَأَى ابنُ مَسْعُودٍ ☺ صُورَةً في البَيْتِ، فَرَجَعَ.
          (ش) أي: عبد الله بن مسعود، هكذا وقع في رواية المُسْتَمْلِي والأصيليِّ والقابسيِّ وعبْدُوس، وفي رواية الباقين: <أبو مسعود> عُقْبَة بن عَمْرو الأنصاريُّ، وقال بعضهم: والأَوَّل تصحيف فيما أظنُّ، فإنِّي لم أَرَ الأثرَ المعلَّق إلَّا عن أبي مسعود عُقْبَة بن عَمْرو.
          قُلْت: إنَّ بعض الظنِّ إثمٌ، ولا يلزم مِن عدم رؤيته الأثرَ المذكور إلَّا عن أبي مسعود ألَّا يكون أيضًا لعبد الله بن مسعود، مع أنَّ هذا القائل قال: يحتمل أن يكون ذلك وقع لعبد الله بن مسعود، فإذا كان الاحتمال موجودًا كيف يُحكَم بالتصحيف بالظَّنِّ؟
          (ص) ودَعا ابنُ عُمَرَ أَبَا أيُّوبَ ♥ ، فَرأى في البَيْتِ سِتْرا عَلَى الجِدَارِ، فقال ابنُ عُمَرَ: غَلَبَنا علَيْهِ النِّساءُ، فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أخْشَى علَيْهِ؛ فلَمْ أكُنْ أخْشَى علَيْكَ، والله لا أطْعَمُ لَكَ طَعَامًا، فَرَجَعَ.
          (ش) مطابقَتُه للتَّرجَمة ظاهِرةٌ، ويوضِّح هذا الأثرَ أنَّ معنى (هل يرجع؟) بالاستفهام جانب الإثبات؛ أي: دعا عبد الله بن عُمَر أبا أيذُوب خالد بن زيد، ♥ ، وكانت دعوته في عُرس ابنِه سالم بن عبد الله، فلمَّا جاء أبو أيُّوب إلى بيت عبد الله؛ رأى في جدار البيت ستارةً، فأنكر على عبد الله، فقال ابن عمر: (غَلَبَنَا) بفتح الباء المُوَحَّدة، جملة مِنَ الفعل والمفعول، و(النِّساءُ) بالرفع فاعله.
          قوله: (فَقالَ: مَنْ / كُنْتُ...) إلى آخره أي: إن كنت أخشى على أحد يُعمَل في بيته مثلُ هذا المنكر؛ ما كنت أخشى عليك.
          وهذا الأثر المعلَّق وصله أحمد في كتاب «الورع» ومسدَّد في «مسنده» ومِن طريقه الطبرانيُّ مِن رواية عبد الرَّحْمَن بن إسحاق عن الزُّهْريِّ عن سالم بن عبد الله بن عُمَر، ♥ ، قال: أعرستُ في عهد أبي، فآذَنَ أبي الناس، فكان أبو أيُّوب فيمن آذنَّا، وقد ستروا بيتي ببِجادٍ أخضر، فأقبل أبو أيُّوبَ فاطَّلع فرآه، فقال: يا عبد الله؛ أتسترون الجدار؟ فقال أبي واستحيا: غَلَبَنا عليه النساء يا با أيُّوب، فقال: مَن خشيك أن يغلبَه النساء...، فذكره، و(الْبِجَادُ) بكسر الباء المُوَحَّدة وتخفيف الجيم: الكِساء.