عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من قال لا رضاع بعد حولين
  
              

          ░21▒ (ص) بَابُ مَنْ قَالَ: لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان قول مَن قال: لا رضاع بعد سنتين، وممَّن قال ذلك عامرٌ الشعبيُّ وابن شُبْرُمَة والثَّوْريُّ والأوزاعيُّ والشَّافِعِيُّ وأحمد وأبو يوسف ومُحَمَّدٌ وإسحاق وأبو ثورٍ، وهو قول مالكٍ في «الموطَّأ»، وقال بعضهم: أشار البُخَاريُّ بهذا إلى قول الحنفيَّة: إنَّ أقصى مدَّة الرضاع ثلاثون شهرًا.
          قُلْت: سبحان الله! هذا نتيجة فكرٍ صاحبُه نائمٌ، وما وجه الإشارة في هذا إلى قول الحَنَفيَّة والترجمةُ ما وضعت إلَّا لبيان مَن قال: لا رضاعَ بعد حَولينِ مطلقًا؟ وهو أعمُّ مِن أن يكون بعد الحولين قول الحَنَفيَّة أو غيرهم، وتخصيص الحَنَفيَّة بالجمع أيضًا غير صحيحٌ؛ لأنَّ أبا يوسف ومُحَمَّدًا _اللَّذان هما مِن أكبر أئِمَّة الحَنَفيَّة_ لم يقولا بالرضاع بعد الحولين، والإمامُ مالكٌ الذي هو أحد أركان المذاهب الأربعة روى الوليدُ بن مسلمٍ عنه: ما كان بعد الحولين بشهرٍ أو شهرين يحرِّم، وزُفَرُ الذي هو مِن أعيان أصحاب أبي حنيفة قال: ما كان يجتزئ باللَّبن ولم يَطعَم وإن أتى عليه ثلاث سنين؛ فهو رضاعٌ، والأوزاعيُّ إمام أهل الشام قال: إن فُطِمَ وله عامٌ واحدٌ، واستمرَّ فطامه، ثُمَّ رضع في الحولين؛ لم يحرِّم هذا الرضاع الثاني شيئًا وإن تمادى رضاعُه.
          (ص) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}[البقرة:233].
          (ش) ذَكَر / هذا في معرض الاحتجاج لمَن قال: لا رضاعَ بعد الحولين، وقوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [وأقلُّ مدَّة الحمل ستَّةُ أشهرٍ، فبقي للفطام حولان، وأبو حنيفة يستدلُّ في قوله: إنَّ مدَّة الرضاع ثلاثون شهرًا] بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ}[البقرة:233] بعد قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}[البقرة:233] فثبت أنَّ بعد الحولين رضاعٌ، فلا يمكن قطع الولد عن اللَّبن دفعةً واحدةً، فلا بدَّ مِن زيادة مدَّةٍ يعتاد فيها الصبيُّ مع اللَّبن الفطام، فيكون غذاؤه اللَّبن تارةً والطعام أخرى إلى أن ينسى اللَّبن، وأقلُّ مدَّةٍ تنتقل بها العادة ستَّة أشهرٍ اعتبارًا بمدَّة الحَمل.
          فَإِنْ قُلْتَ: روى الدَّارَقُطْنيُّ عن الهيثم بن جميل عن ابن عُيَينة، عن عَمْرو بن دينارٍ، عن ابن عَبَّاسٍ قال: قال رسول الله صلعم : «لا رضاع إلَّا ما كان مِن حولين».
          قُلْت: لم يسنده عن ابن عُيَيْنَةَ غيرُ الهيثم بن جميل، قال ابن عَدِيٍّ: يغلط على الثقات، وأرجو أنَّهُ لا يتعمَّد الكذب، وغيره يوقفه على ابن عَبَّاسٍ، وقال ابن القطَّان: الراوي عن الهيثم أبو الوليد بن بُرْدٍ الأنطاكيُّ وهو لا يُعرَف، وقال النَّسائيُّ: الهيثم بن جميل وثَّقه الإمام أحمد والعجليُّ وغير واحدٍ، وكان مِنَ الحفَّاظ إلَّا أنَّهُ وهم في رفع هذا الحديث، والصحيح وقفه على ابن عَبَّاسٍ، ورواه سعيد بن منصورٍ عن ابن عُيَينة موقوفًا، ورواه عبد الرَّزَّاق: أخبرنا مَعْمَرٌ عن عَمْرٍو، عن ابن عُيَينة به موقوفًا، وكذا رواه ابن أبي شَيْبَةَ موقوفًا، ورواه أيضًا ابن أبي شَيْبَةَ موقوفًا على ابن مسعودٍ وعليِّ بن أبي طالبٍ، وأخرجه الدَّارَقُطْنيُّ موقوفًا على عمر ☺ قال: لا رضاع إلَّا في الحولين في الصغير.
          (ص) وما يُحَرِّمُ مِنْ قَليلِ الرِّضاعِ وكَثِيرهِ.
          (ش) (وَمَا يُحَرِّمُ) : عطفٌ على قوله: (مَن قال) أي: وفي بيان ما يحرِّم؛ مِن التحريم، وكأنَّه أشار بهذا إلى أنَّهُ ممَّن يرى بأنَّ قليل الرضاع وكثيره سواءٌ في الحرمة، وهو قول عليٍّ وابن مسعودٍ وابن عمر وابن عَبَّاسٍ وسعيد بن المُسَيَِّبِ والحسن وعطاءٍ ومكحولٍ وطاووس والحكم وأبي حنيفة وأصحابه واللَّيث بن سعدٍ ومالكٍ والأوزاعيِّ والثَّوْريِّ؛ لإطلاق الآية، وهو المشهور عن أحمد، وقالت طائفةٌ: إنَّ الذي يحرِّم ما زاد على الرضعة، ثُمَّ اختلفوا؛ فعن عائشة: عشر رضعاتٍ، وعنها: سبع رضعاتٍ، وعنها: خمس رضعاتٍ، وروى مسلمٌ عنها: كان فيما نزل مِنَ القرآن: عشر رضعاتٍ، ثُمَّ نُسِخْنَ بخمس رضعاتٍ محرِّماتٍ، فتوفِّي رسول الله صلعم وهنَّ مِمَّا يُقرَأ، وإلى هذا ذهب الشَّافِعِيُّ وأحمد في روايةٍ، وذهب أحمد في روايةٍ وإسحاق وأبو عُبَيدٍ وأبو ثورٍ وابن المنذر وداود وأتباعه _إلَّا ابن حزم_ إلى أنَّ الذي يحرِّم ثلاث رضعاتٍ، ومذهب الجمهور أقوى؛ لأنَّ الأخبار اختلفت في العدد فوجب الرجوع إلى أقلِّ ما ينطلق عليه الاسم، وقول عائشة الذي رواه مسلمٌ لا ينتهض حجَّةً؛ لأنَّ القرآن لا يثبت إلَّا بالتواتر، والراوي روى هذا على أنَّهُ قرآنٌ لا خبرٌ، فلم يثبت كونه قرآنًا، ولا ذكر الراوي أنَّهُ خبرٌ ليُقبَل قولُه فيه.