عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}
  
              

          ░49▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}[النساء:4] وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ، وَأَدْنَى مَا يَجُوزُ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}[النساء:20] وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ}[البقرة:236].
          وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : «وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ».
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان ما يدلُّ عليه قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}[النساء:4] أي: أعطوا النساء مهورهنَّ، وكأنَّ البُخَاريَّ أشار بهذا وبما ذكر بعده أنَّ المهر لا يقدَّر أقلُّه، وسيجيء الكلام فيه مفصَّلًا، و(الصَّدُقات) جمع (صَدُقةٍ) بفتح الصاد وضمِّ الدال، وهو مهر المرأة، وقُرِئَ: {صَدْقاتهنَّ} بفتح الصاد وسكون الدال، و{صُدْقاتهنَّ} بِضَمِّ الصاد وسكون الدال، و{صُدُقاتهنَّ} بِضَمِّ الصاد وضمِّ الدال.
          قوله: ({نِحْلَةً}) منصوبٌ على المصدر؛ لأنَّ النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء؛ والتقدير: أنحِلوهنَّ مهورهنَّ نحلةً، ويجوز أن يكون منصوبًا على الحال مِنَ المخاطَبِين؛ أي: آتوهنَّ مهورهنَّ ناحلين طيِّبي النفوس بالإعطاء، ويجوز أن يكون حالًا مِنَ (الصَّدُقات) ويكون معنى {نحلة} ملَّة، يقال: نحلة الإسلام خير النِّحَل، ويكون التقدير: وآتوا النساء صَدُقاتهنَّ منحولةً مُعطَاةً، ويجوز أن يكون منصوبًا على التعليل؛ أي: آتوهنَّ صدقاتهنَّ للنِّحْلة والدِّيانة.
          قوله: (وَكَثْرَةِ الْمَهْرِ) بالجرِّ عطفًا على (قَوْلِ اللهِ تَعَالَى) أي: وفي بيان كثرة المهر، وأشار به إلى جواز كثرة المهر، فلأجل ذلك ذكر قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}[النساء:20] و(القِنطار) المال العظيم، مِن قنطرتُ الشيء؛ إذا رفعتَه، ومنه: القَنطرة، قاله الزَّمَخْشَريُّ، واختلفوا فيه هل محدودٌ أم لا؟ فقال أبو عُبَيدٍ: هو وزنٌ لا يُحدُّ، وقيل: هو محدودٌ، ثُمَّ اختلفوا فيه؛ فقيل: هو ألفٌ ومئتا أوقيَّة، رواه أُبَيُّ بْنُ كعبٍ عن النَّبِيِّ صلعم ، وبه قال معاذ بن جبلٍ وابن عمر، وقيل: اثنا عشر ألف أوقيَّة، رواه أبو هُرَيْرَة، وقيل: ألفٌ ومئتا دينارٍ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ، وقيل: سبعون ألف دينارٍ، رُوي عن ابن عمر ومجاهدٍ، وقيل: ثلاثون ألف درهمٍ، أو مئة رطلٍ مِنَ الذهب، وقيل: سبعة آلاف دينارٍ، وقيل: ثمانية آلاف دينارٍ، وقيل: ألف مثقال ذهبٍ أو فضةٍ، وقيل: ملء مَسك ثورٍ ذهبًا، وكلُّ ذلك تحكُّمٌ إلَّا ما رُوي عن خبرٍ، وعن ابن عَبَّاسٍ في هذه الآية: وإن كرهتَ امرأتَك وأردتَ أن تطلِّقها وتتزوَّج غيرها؛ فلا تأخذ منها شيئًا مِن مهرها ولو كان قنطارًا / مِنَ الذهب.
          قوله: ({أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ}[البقرة:236]) [وزاد أبو ذرٍّ: <{فريضة}>].
          قوله: (وَقَالَ سَهْلٌ) أي: قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ في حديث الواهبة نفسها: (وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيدٍ) وقد مضى حديث سهلٍ مرارًا عديدةً، وذكر هنا طرفًا منه، وأشار به البُخَاريُّ أيضًا إلى أنَّ المهر لا يتقدَّر بشيءٍ.
          وقد اختلف العلماء في أكثر الصداق وأقلِّه؛ فزعم المُهَلَّبُ أنَّهُ لا حدَّ لأكثره؛ لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}[النساء:20]، وذكر عبد الرَّزَّاق عن قيس بن الربيع عن أبي حصينٍ عن أبي عبد الرَّحْمَن السلميِّ، قال عُمَر بن الخَطَّاب ☺ : لا تغالوا في صدقات النساء، فقالت امرأةٌ: ليس ذلك لك يا عمر، إنَّ الله ╡ قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}[النساء:20] فقال: إنَّ امرأةً خاصمت عمر فخصمَتْه، وذكر أبو الفرج الأمويُّ وغيره: أنَّ عمر أصدَقَ أمَّ كلثومٍ ابنة عليِّ بن أبي طالبٍ ♥ أربعين ألفًا، وأنَّ الحسن بن عليٍّ تزوَّج امرأةً فأرسل إليها مئة جاريةٍ ومئة ألف درهمٍ، وتزوَّج معصب بن الزُّبَير عائشة بنت طلحة فأرسل إليها ألف ألف درهمٍ، فقيل في ذلك:
بِضْعُ الفَتَاةِ بِأَلْفِ أَلْفٍ كامِلٍ                     وَتَبِيتُ سَادَاتُ الجُيُوشِ شِبَاعًا
          وأصدَقَ النجاشيُّ أمَّ حبيبة ♦ عن سيِّدنا رسول الله صلعم _فيما ذكره أبو داود_ أربعةَ آلاف درهمٍ، وكتب بذلك إلى رسول الله صلعم ، وقال الحربيُّ: وقيل: أصدقها أربع مئة دينارٍ، وقيل: مئتي دينارٍ، وفي مسلمٍ: قالت عائشة: كان صَداق رسول الله صلعم ثِنتَي عشرة أوقيَّةً ونشًّا، فذلك خمس مئة درهمٍ، وقال الحربيُّ: أصدق صلعم سودةَ بيتًا ورثه، وعائشة على متاع بيتٍ قيمتُه خمسون درهمًا، رواه عطيَّة عن أبي سعيد، وأصدق زينبَ بنت خُزَيمة ثِنتَي عشرة أوقيَّةً ونشًّا، وأمَّ سلمة على متاعٍ قيمته عشرة دراهمٍ، وقيل: كان جرَّتين ورحًى ووسادةً حشوُها ليفٌ، وعند أبي الشيخ: على جَرٍّ أخضَرٍ ورحى يدٍ، وعند التِّرْمِذيِّ: على أربع مئة درهمٍ، وفي مسلمٍ: لمَّا قال الأنصاريُّ وقد تزوَّج: «بكم تزوَّجتها؟»: على أربع أواقٍ؛ فقال صلعم : «أربع أواقٍ؟ كأنَّكم تنحتون الفضَّة مِن عُرْضِ هذا الجبل»، وعند ابن حِبَّان عن أبي هُرَيْرَة: كان صداقنا إذ كان فينا رسول الله صلعم عشرةَ أواقٍ، زاد أبو الشيخ في كتاب «النكاح»: «فطبَّق يده»، وذاك أربع مئة درهمٍ، وعن عَدِيِّ بن حاتمٍ: سنَّة رسول الله صلعم أو صداق بناته: أربع مئة درهمٍ، وبسندٍ لا بأس به: أنَّ رسول الله صلعم زوَّج ربيعة بن كعبٍ الأسلميَّ امرأةً مِنَ الأنصار على وزن نواةٍ مِن ذهبٍ، ورُوِيَ عن أنسٍ: قيمة النواة خمسة دراهم، وفي روايةٍ: ثلاثة دراهم وثُلث درهم، وإليه ذهب أحْمَد ابن حَنْبَل، وعن بعض المالكيَّة: النواة ربع دينارٍ، وقال أبو عُبَيدة: لم يكن هناك ذهبٌ، إِنَّما هي خمسة دراهم تُسمَّى نواةً؛ كما تُسمَّى الأربعون أوقيَّةً، وبسندٍ جَيِّدٍ عند أبي الشيخ عن جابرٍ: إن كنَّا لننكح المرأة على الحفنة أو الحفنتين مِنَ الدقيق، ولمَّا ذكره المرزبانيُّ استغربه، وعند البَيْهَقيِّ: قال صلعم : [«لو أنَّ رجلًا تزوَّج امرأةً على ملءِ كفِّه مِن طعامٍ لكان ذلك صداقًا» وفي لفظٍ: قال صلعم ]: «مَن أعطى في صداق امرأةٍ ملءَ الحفنة سويقًا أو تمرًا؛ فقد استحلَّ» قال البَيْهَقيُّ: رواه ابن جُرَيْجٍ فقال فيه: كنَّا نستمتع بالقبضة، وابن جُرَيْجٍ أحفظ، وفي «كتاب أبي داود»: عن يزيد عن موسى، عن مسلم بن رومان، عن أبي الزُّبَير، عن جابرٍ يرفعه: «مَن أعطى في صداق امرأةٍ ملء كفَّيه سويقًا أو تمرًا؛ فقد استحلَّ» وقال ابن القَطَّان: وموسى لا يُعرَف، وقال أبو مُحَمَّدٍ: لا يُعوَّل عليه، وروى التِّرْمِذيُّ مِن حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه: أنَّ امرأةً مِن بني فزارة تزوَّجت على نعلين، فقال رسول الله صلعم : «أرضيتِ مِن نفسِك ومالك بنعلين؟» قالت: نعم، فأجازه، وروى البَيْهَقيُّ في «المعرفة» والدَّارَقُطْنيُّ في «سننه» والطبرانيُّ في «معجمه»: عن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن [ابن] البيلمانيِّ عن أبيه عن ابن عمر: أنَّ رسول الله / صلعم قال: «أدُّوا العلائق» قالوا: يا رسول الله؛ ما العلائق؟ قال: «ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيبًا مِن أراك».
          قُلْت: هو معلولٌ بمُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابن البيلمانيِّ، قال ابن القَطَّان: قال البُخَاريُّ: مُنْكَرُ الحديث، وقال ابن القاسم: لو تزوَّجها بدرهمين ثُمَّ طلَّقها قبل الدخول لم يرجع إلَّا بدرهمٍ، وعن الثَّوْريِّ: إذا تراضوا على درهمٍ في المهر فهو جائزٌ، وروى عبد الرَّزَّاق عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْريِّ، عن عِكْرِمَة، عن ابن عَبَّاسٍ قال: النكاح جائزٌ على موزةٍ إذا هي رضيت، وذهب ابن حزمٍ إلى جوازه بكلِّ ما له نصفٌ قلَّ أو كثر، ولو أنَّهُ حبَّة برٍّ أو حبَّة شعيرٍ وشبههما، وسُئل ربيعة عمَّا يجوز مِنَ النكاح، فقال: درهمٌ، قيل: فأقل؟ قال: ونصفٍ، قيل: فأقل، قال: حبَّة حنطةٍ أو قبضة حنطةٍ، وقال الشَّافِعِيُّ: سألت الدراورديَّ: هل قال أحدٌ بالمدينة: لا يكون صداق أقلَّ مِن ربع دينارٍ؟ فقال: لا والله، ما علمت أحدًا قاله قبل مالكٍ، قال الدراورديُّ: أخذه عن أبي حنيفة؛ يعني: في اعتبار ما يُقْطَع به اليد، قال الشَّافِعِيُّ: روى بعض أصحاب أبي حنيفة في ذلك عن عليٍّ، فلا يثبت مثله لو لم يخالفه غيره: أنَّهُ لا يكون مهرًا أقلُّ مِن عشرة دراهم.
          قُلْت: قال أصحابنا: أقلُّ المهر عشرة دراهم سواءٌ كانت مضروبةً أو غيرها حَتَّى يجوز وزن عشرةٍ تبرًا وإن كانت قيمته أقلَّ، بخلاف السَّرِقَة؛ لما روى الدَّارَقُطْنيُّ مِن حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلعم : «لا تُنْكِحوا النساء إلَّا للأكفاء، ولا يزوِّجهنَّ إلا الأولياء، ولا مهر دون عشرة دراهم».
          فَإِنْ قُلْتَ: فيه مبشّر بن عُبَيدٍ متروك الحديث، أحاديثه لا يُتابَع عليها، قاله الدَّارَقُطْنيُّ، وقال البَيْهَقيُّ في «المعرفة»: عن أحْمَد ابن حَنْبَل أنَّهُ قال: أحاديث مبشّر بن عُبَيد موضوعةٌ كذبٌ.
          قُلْت: رواه البَيْهَقيُّ مِن طُرُقٍ، والضعيف إذا رُوِيَ مِن طرقٌ يصير حسنًا فيُحتجُّ به، ذكره النوويُّ في «شرح المهذَّب»، وعن عليٍّ ☺ أنَّهُ قال: أقلُّ ما تُستَحلُّ به المرأة عشرة دراهم، ذكره البَيْهَقيُّ وأبو عُمَر بن عبد البرِّ.