عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب النظر إلى المرأة قبل التزويج
  
              

          ░35▒ (ص) بابُ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان جوازِ النظرِ إلى المرأة قبل أن يتزوَّجها، وكان ينبغي أن يقال: قبل التزوُّج؛ لأنَّ النظر فيه، لا في التزويج، والظاهر أنَّ هذا من الناسخ.
          وهذا البابُ اختلف فيه العلماء؛ فقال طاووس والزُّهْريُّ والحسن البَصْريُّ والأوزاعيُّ وأبو حَنيفة وأبو يوسف ومُحَمَّدٌ والشَّافِعِيُّ ومالكٌ وأحمد وآخرون: يُباح النظر إلى المرأةِ التي تُريد نكاحَها، وقال عياض: وقال الأوزاعيُّ: ينظُرُ إليها ويجتهد، وينظر مواضعَ اللحم منها، وقال الشَّافِعِيُّ وأحمد: وسواءٌ بإذنها أو بغير إذنها إذا كانت مُستَتِرةً، وحكى بعض شيوخنا تأويلًا على قول مالك أنَّهُ لا ينظر إليها إلَّا بإذنِها؛ لأنَّه حقٌّ لها، ولا يجوز عند هؤلاء المذكورين أن ينظر إلى عورتِها ولا وهِي حاسرةٌ، وعن داود: ينظر إلى جميعِها، حَتَّى قال ابن حزم: يجوز النظرُ إلى فَرْجِها، وقالت العلماء: لا ينظر إليها نَظَر تلذُّذٍ وشَهوةٍ، ولا لِريبة، وقال أحمد: ينظر إلى الوجه على غير طريق لذَّة، وله أن يُردِّدَ النظرَ إليها متأمِّلًا محاسِنَها، وإذا لم يُمكِنْه النظرُ استُحِبَّ أن يبعثَ امرأةً يثقُ بها تنظرُ إليها وتخبرُه؛ لِما روى البَيْهَقيُّ من حديث ثابتٍ عن أنسٍ: [أنَّ النَّبِيَّ صلعم أراد أن يتزوَّج امرأةً، فبعث بامرأةٍ لتنظر إليها، فقال]: «شُمِّي عوارضَها، وانظُري إلى عُرقُوبَيها...» الحديث، قال البَيْهَقيُّ: كذا رواه شيخُنا في «المستدرك»، ورواه أبو داودَ في «المراسيل» مختصرًا.
          قُلْت: (العوارِض) الأسنانُ التي في عَرْضِ الفَم، وهي ما بين الثنايا والأضراس، واحدُها: (عارِض) وذلك لاختبار النَّكهة.
          وقالت طائفة _منهم يونس بن عُبَيد وإسماعيل ابن عُلَيَّةَ_ وقومٌ مِن أهل الحديث: لا يجوز النظر إلى الأجنبيَّة مطلقًا إلَّا لزوجها أو ذي رَحِمٍ مَحرَمٍ منها، واحتجُّوا في ذلك بحديث عليٍّ ☺ : أنَّ رسول الله صلعم قال: «يا عليُّ؛ إنَّ لك في الجنَّة كنزًا، وإنَّك ذو قرنَيها، فلا تُتبِعِ النَّظرةَ النظرةَ، فإنَّ لك الأولى» رواه الطَّحَاويّ والبَزَّار، ومعنى «لا تُتبِعِ النَّظرةَ النظرةَ» أي: لا تجعل نظرتَكَ إلى الأجنبيَّة تابعةً لنظرتك الأولى التي تقع بغتةً، وليست لك النظرةُ الآخرة؛ لأنَّها تكون عن قصدٍ واختيارٍ، فتأثَم بها وتُعاقَب، وبما رواه مسلم من حديث جَرير بن عبد الله قال: سألتُ رسول الله صلعم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بَصَري، قالوا: فلمَّا كانت النظرة الثانية حرامًا؛ لأنَّها عنِ اختيار؛ خولِفَ بين حكمِها وحكم ما قبلها؛ إذ كانت بغير اختيار، دلَّ ذلك على أنَّهُ ليس لأحد أن ينظر إلى وجه / امرأةٍ إلَّا أن يكون بينها وبينه مِنَ النكاح أو الحُرمة.
          واحتجَّت الطائفة الأولى بحديث مُحَمَّد بن مَسْلَمَة: سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول: «إذا أُلقيَ في قلبِ امرئٍ خطبةُ امرأة؛ فلا بأسَ أن ينظرَإليها»، رواه الطَّحَاويُّ وابن ماجه والبَيْهَقيُّ، وبحديث أبي حُمَيد الساعديِّ _وقد كان رأى النَّبِيَّ صلعم _ قال: قال رسولُ الله صلعم : «إذا خطب أحدُكم امرأةً فلا جُناح عليه أن ينظرَ إليها إذا كان إِنَّما ينظرُ إليها للخطبة وإن كانت لا تعلم» رواه الطَّحَاويُّ وأحمد والبَزَّار، وبحديث جابر ☺ قال: قال رسول الله صلعم : «إذا خطب أحدُكم المرأةَ، فقدِرَ على أن يرى منها ما يُعجِبُه؛ فليفعل» رواه الطَّحَاويُّ وأبو داود، وبحديث أبي هُرَيْرَة: أنَّ رجلًا أراد أن يتزوَّج امرأةً مِنَ الأنصار، فقال له النَّبِيُّ صلعم : «انظُر إليها؛ فإنَّ في أَعْيُن نِساءِ الأنصار شيئًا» يعني: الصِّغَر، رواه الطَّحَاويُّ، وأخرجه مسلم، وليس في روايته: (يعني: الصِّغَر)، وبحديث المُغيرةِ بن شُعبة: أنَّهُ أراد أن يتزوَّج امرأةً، فقال له النَّبِيُّ صلعم : «انظُر إليها؛ فَإِنَّهُ أحرى أن يؤدَمَ بينكما» وأخرجه الطَّحَاويُّ والتِّرْمِذيُّ وقال: حديث حسن، وقال: معنى قولِه: «أن يؤدَمَ بينكما» أحرَى أن تدومَ المودَّة بينكما، وأجابوا عن حديث عليٍّ ☺ بأنَّ النظر فيه لغير الخطبة، فذلك حرام، وأَمَّا إذا كان للخطبة فلا يمنع منه؛ لأنَّه للحاجة، ألا تَرى كيف جُوِّز به في الإشهاد عليها ولها؟ فكذلك النظر للخطبة، والله أعلم.