عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من قال: لا نكاح إلا بولي
  
              

          ░36▒ (ص) بَابُ مَنْ قَالَ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان (مَنْ قَالَ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ) هذا لفظ حديثٍ رواه أبو داود والتِّرْمِذيُّ مِن حديث أبي موسى الأشعريِّ، وإِنَّما ترجم بهذا ولم يخرِّجه لكونه ليس على شرطه، وكذلك لم يخرِّجه مسلمٌ وفيه كلامٌ كثيرٌ قد ذكرناه عن قريبٍ، ولكن لمَّا كان ميله إلى مَن قال: (لا نكاح إلَّا بوليٍّ) احتجَّ بثلاث آياتٍ، ذكر هنا من كلِّ آيةٍ قطعةً وهي قوله:
          (ص) لِقَوْلِهِ ╡ : {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}[البقرة:232].
          (ش) وفي بعض النُّسَخ: < لِقَوْلِ الله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}[البقرة:232]>
          وجهُ الاستدلال به أنَّ الله تعالى نهى الأولياء عن عضلهنَّ؛ أي: منعهنَّ مِنَ التزويج، فلو كان العقد إليهنَّ لم يكنَّ ممنوعاتٍ.
          قُلْت: لا يتمُّ الاستدلال به؛ لأنَّ ظاهر الكلام أنَّ الخطاب للأزواج الذين يطلِّقون نساءهم ثُمَّ يعضلونها بعد انقضاء العدَّة تأثُّمًا، ولحميَّة الجاهليَّة لا يتركونهنَّ يتزوجْنَ مَن شئنَ مِنَ الأزواج.
          فَإِنْ قُلْتَ: هذه الآية نزلت في قصَّة مَعْقِل بن يسارٍ على ما رواه البُخَاريّ _على ما يأتي_ عن قريبٍ، ورواه أبو داود والتِّرْمِذيُّ والنَّسائيُّ في «الكبرى» مِن رواية الحسن عن مَعْقِل بن يسارٍ، قال: كانت لي أختٌ تُخطَب فأمنعها... الحديث، وفيه: فأنزل الله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}[البقرة:232] فقال: مَن قال: (لا نكاح إلَّا بوليِّ) أمر الله تعالى بترك عضلهنَّ، فدلَّ ذلك أنَّ إليهم عقد نكاحهنَّ.
          قُلْت: هذا الحديث رُوِيَ مِن وجوهٍ كثيرةٍ مختلفةٍ، وكذلك ذُكرت وجوهٌ في سبب نزول هذه الآية، فمنهم مَن قال: الخطاب فيه للأولياء، ومنهم مَن قال: الخطاب للأزواج الذين طلَّقوا، ومنهم مَن قال: الخطاب لسائر الناس، فعلى هذا لا يتمُّ به الاستدلال على ما ذكرنا، وأيضًا يحتمل أن يكون عَضْلُ مَعْقِل بن يسارٍ لأجل تزهيده وترغيبه أختَه في المراجعة، فتقف عند ذلك، فأُمِر بترك ذلك، وقال أبو بكرٍ الجصَّاص بعد أن روى حديث مَعْقِلٍ من رواية سِمَاكٍ عن ابن أخي مَعْقِلٍ عن مَعْقِل بن يسارٍ: إنَّ هذا الحديث غير ثابتٍ على مذهب أهل النقل؛ لأنَّ في سنده رجلًا مجهولًا، وأَمَّا حديث الحسن البَصْريِّ فمرسلٌ، وأَمَّا الآية فالظاهر أنَّها خطاب للأزواج، كما ذكرنا.
          (ص) فَدَخَلَ فِيهِ الثَّيِّبُ وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ.
          (ش) أي: فدخل في قوله ╡ : {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}[البقرة:232] الثيب والبكر لعموم لفظ {النساء} وفي بعض النُّسَخ: <قال أبو عبد الله: فدخلت فيه الثيِّب والبكر> و(أبو عبد الله) هو البُخَاريُّ نفسه.
          (ص) وَقَالَ: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}[البقرة:221].
          (ش) وجه الاستدلال به أنَّ الله خاطب الأولياء ونهاهم عن إنكاح المشركين مَولياتهم المسلمات.
          قُلْت: الآية منسوخةٌ بقوله: {وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[المائدة:5] والخطاب أعمُّ مِن أن يكون الأولياء أو غيرهم، فلا يتمُّ الاستدلال به.
          (ص) وَقَالَ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}[النور:32].
          (ش) لا وجه للاستدلال به لمَن قال: (لا نكاح إلَّا بوليٍّ) لأنَّ المفسرين قالوا: معناه: أيُّها المؤمنون زوِّجوا مَن لا زوج له مِن أحرار رجالكم ونسائكم والصالحين مِن عبادكم وإمائكم، ومَن كان فيه صلاحٌ مِن غلمانكم وجواريكم، و{الأَيَامَى} جمع (أيِّمٍ) وهو أعمُّ مِنَ (المرأة) كما ذكرنا لتناوُلِه الرجلَ، فلا يصحُّ أن يُراد بالمخاطبين / الأولياء، وإلَّا كان للرجل وليٌّ، وقال الكَرْمَانِيُّ: خرج الرجل منه بالإجماع فبقي الحكم في المرأة بحاله.
          قُلْت: هذه دعوى تحتاج إلى البرهان.