عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الشروط في النكاح
  
              

          ░52▒ (ص) بَابُ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان الشروط التي تُشْتَرط في عقد النكاح، وهي على أنواعٍ؛ منها: ما يجب الوفاء به كحسن العشرة، ومنها: ما لا يلزم كسؤال طلاق أختها، ومنها: ما هو مختَلَفٌ فيه؛ مثل: ألَّا يتزوج عليها.
          (ص) وَقَالَ عُمَرُ ☺ : مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ.
          (ش) هذا التعليق قد مرَّ في (كتاب الشروط) في (باب ما لا يجوز مِنَ الشروط في النكاح) وفيه زيادةٌ وهي قوله: (ولك ما شرطت).
          وأخرج هذا التعليق أبو عُبَيدٍ عن ابن عُيَينة عن يزيد بن يزيد بن جابرٍ، عن إسماعيل بن عبد الله، عن عبد الرَّحْمَن بن غَنمٍ قال: شهدت عمر ☺ قضى في رجلٍ شرطَ لامرأته دارها، فقال: لها شرطها، فقال رجلٌ: إذًا يطلِّقها؟ فقال: إنَّ مقاطع الحقوق عند الشروط، و(المقاطع) جمع (مقطعٍ) أراد: أنَّ المواضع التي تُقطَع الحقوق فيها عند وجود الشروط، وأراد به الشروط الواجبة، فَإِنَّهُا يجب الوفاء بها.
          واختلف العلماء في الرجل يتزوَّج المرأةَ ويشترط لها ألَّا يخرجها مِن دارها، أو ألَّا يتزوجَّ عليها، أو لا يتسرَّى، أو نحو ذلك مِنَ الشروط المباحة؛ على قولين؛ أحدهما: أنَّهُ يلزمه الوفاء بذلك ذكر عبد الرَّزَّاق وابن المنذر عن عُمَر بن الخَطَّاب ☺ : أنَّ رجلًا شرط لزوجته ألَّا يخرجها، فقال عمر: لها شرطها، ثُمَّ ذكرا عنه ما ذكره البُخَاريُّ، وقال عَمْرو بن العاص: أرى أن يفي لها شرطها، ورُوي مثله عن طاووس وجابر بن زيدٍ، وهو قول الأوزاعيِّ وأحمد وإسحاق، وحكاه ابن التين عن ابن مسعودٍ والزُّهْريِّ، واستحسنه بعض المتأخِّرين، والثاني: أن يُؤمَر الزوج بتقوى الله والوفاء بالشرط، ولا يحكم عليه بذلك حكمًا، فإن أبى إلَّا الخروج لها كان أحقَّ الناس بأهله، وإليه ذهب عطاءٌ والشعبيُّ وسعيد بن المُسَيَِّبِ والنخعيُّ والحسن وابن سِيرِين وربيعة وأبو الزناد وقتادة، وهو قول مالكٍ وأبي حنيفة واللَّيث والثوريِّ والشَّافِعِيِّ، وقال عطاءٌ: إذا شرطت أنَّك لا تنكح ولا تتسرَّي ولا تذهب ولا تخرج بها، يبطل الشرط إذا نكحتها.
          فَإِنْ قُلْتَ: رَوَى ابن وهبٍ عن اللَّيث، عن عَمْرو بن الحارث، عن كثير بن فَرْقَدٍ، / عن ابن السَّبَّاق: أنَّ رجلًا تزوَّج امرأةً على عهد عمر ☺ ، فشرط لها ألَّا يخرجها مِن دارها، فوضع عنه عُمَر بن الخَطَّاب الشرطَ، وقال: المرأة مع زوجها، زاد أبو عُبَيدٍ: ولم يلزمها الشرط، وعن عليٍّ مثله، وقال: شرط الله قبل شروطهم.
          قُلْت: قال أبو عُبَيد: تضادَّت الرواية عن عمر ☺ ، واختلف فيه التابعون فمَن بعدهم، فقال الأوزاعيُّ: نأخذ بالقول الأَوَّل ونرى أنَّ لها شرطها، وقال اللَّيث بالقول الآخر ووافقه مالكٌ وسفيان بن سعيدٍ.
          (ص) وَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ مِنْ مُصَاهَرَتِهِ فَأَحْسَنَ قَالَ: «حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي».
          (ش) مطابقته للترجمة مِن حيث إنَّهُ صلعم أثنى على صهره؛ لأجل وفائه بما شَرَط له.
          و(الْمِسْوَرُ) بكسر الميم وسكون السين المُهْمَلة (ابْنُ مَخْرَمَةَ) بفتح الميمين وسكون الخاء المُعْجَمة وفتح الراء، ابن نوفل القرشيُّ الزُّهْريُّ، أبو عبد الرَّحْمَن، وُلِد بِمَكَّةَ بعد الهجرة بسنتين، وقُدِم به المدينة في عقِبِ ذي الحجَّة سنة ثمانٍ، وقُبِضَ النَّبِيُّ صلعم وعمرُه ثمان سنين، وسمع مِنَ النَّبِيِّ صلعم وحفظ عنه، وبقيَ في المدينة إلى أن قُتِلَ عثمان ☺ ، ثُمَّ انحدر إلى مكَّة فلم يزل بها حَتَّى قدم الحُصَين بن نُمَيرٍ مكَّة لقتال ابن الزُّبَير، وحاصر مكَّة، وفي محاصرته أهل مكَّة أصابه حجرٌ مِن حجارة المنجنيق وهو يصلِّي في الحِجْر، فقَتَله، وذلك في ربيع الأَوَّل سنة أربعٍ وستِّين، وصلَّى عليه ابن الزُّبَير بالحجون.
          ومرَّ هذا التعليق في (المناقب) في (باب ذكر أصهار النَّبِيِّ صلعم منهم أبو العاص بن الربيع) وأخرجه هناك مطوَّلًا عن أبي اليمان عن شُعَيْبٍ، عن الزُّهْريِّ، ومرَّ الكلام فيه.
          قوله: (ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ) هو أبو العاص بن الربيع بن عبد العزَّى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيٍّ القرشيُّ العَبْشَمِيُّ، صهر رسول الله صلعم ، زوج ابنته زينب أكبر بناته، واختُلِفَ في اسمه فقيل: لقيط، وقيل: مهشم، وقيل: هُشَيم، والأكثر: لقيط، وأمُّه هالة بنت خويلد بن أسدٍ، أخت خديجة لأبيها وأمِّها، وكان أبو العاص فيمَن شهد بدرًا مع كفَّار قريش، وأُسِرَ يوم بدرٍ مع مَن أُسِر، فلمَّا بعث أهل مكَّة في فداء أساراهم قدم في فدائه أخوه عَمْرو بن الربيع بمالٍ دفعته زينب بنت رسول الله صلعم ، وقصَّته مشهورةٌ، وكان مواخيًا لرسول الله صلعم مصافيًا، وكان أبى أن يُطلِّق زينب؛ إذ مشى إليه مشركو قريشٍ في ذلك، فشكر رسولُ الله صلعم مصاهرتَه، وأثنى عليه بذلك خيرًا، وهاجرت زينب مسلمةُ وتركته على شركه، ثُمَّ بعد ذلك جرى عليه ما جرى حَتَّى أسلم بعد قدومه على النَّبِيِّ صلعم ، وردَّ رسول الله صلعم ابنته عليه، واختُلِف هل ردَّه بعقدٍ جديدٍ أو على عقده الأَوَّل؟ وتوفِّي في ذي الحجَّة سنة اثنتي عشرة.
          قوله: (فَأَحْسَنَ) أي: في الثناء عليه.
          قوله: (فَصَدَقَنِي) مِن صَدَق الحديثَ؛ بتخفيف الدال، ويقال أيضًا: صَدَق في الحديث، مِنَ الصدق، خلاف الكذب، و(صدَّقني) بتشديد الدال: الذي يُصدِّقك في حديثك.
          قوله: (وَوَفَانِي) مِن وفى الشيءَ وأوفى ووفَّى _بالتشديد_ بمعنًى، ووفى الشيءُ؛ إذا تمَّ، وأصل (الوفاء) التمام، ويروى: <ووفى لي>.