عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب هجرة النبي نساءه في غير بيوتهن
  
              

          ░92▒ (ص) بَابُ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلعم نِسَاءَهُ فِي غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان هجر النَّبِيِّ صلعم ؛ أي: إعراضه وتركه عنهنَّ شهرًا، وسكناه في غير بيوتهنَّ.
          (ص) وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ رَفْعُهُ: «غَيْرَ أَنْ لَا تُهْجَرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» وَالأَوَّلُ أَصَحُّ.
          (ش) (مَعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ) صحابيٌّ مشهورٌ، و(حَيْدَةُ) بفتح الحاء المُهْمَلة وسكون الياء آخر الحروف والدال المُهْمَلة المفتوحة، ابن معاوية بن حيدة القشيريُّ، معدودٌ في أهل البصرة، غزا خراسان ومات بها، وهو جدُّ بَهْز بن حكيم بن معاوية.
          قوله: (وَيُذْكَرُ) صيغة التمريض، قال الكَرْمَانِيُّ: (المذكور: لا يُهجَر إلَّا في البيت، و«رَفْعُهُ» جملةٌ حاليَّةٌ؛ أي: ويُذْكَر عنه: «وَلَا تُهْجَرُ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» مرفوعًا إلى النَّبِيِّ صلعم ، قوله: «وَالأَوَّلُ» أي: الهجرة في غير البيوت «أَصَحُّ» إسنادًا مِنَ الهجرة فيها، وفي بعضها: «غير أن لا تُهْجَر إلَّا في البيت» وحينئذٍ فاعل «يُذْكَر»: هجرُ النَّبِيِّ صلعم نساءه؛ أي: يُذْكَر قصَّة الهجر عنه مرفوعًا إلَّا أنَّه قال: «لا تُهجَر إلَّا في البيت») إلى هنا كلامُه، وقال بعضهم: وقع في «شرح الكرمانيِّ» قوله: «ويُذْكَر عن معاوية بن حيدة رفعه: ولا تُهْجَر إلَّا في البيت» أي: ويُذْكَر عن معاوية: ولا تُهْجَر إلَّا في البيت» مرفوعًا إلى النبيِّ صلعم «والأوَّل» أي: الهجرة في غير البيوت «أصحُّ» إسنادًا، وفي بعضها _أي: وفي بعض النُّسَخ مِنَ «البخاريِّ»_: غير أن لَا تُهْجَر إلَّا في البيت، قال: وحينئذٍ فاعل «يُذكَر» هجرُ النَّبِيِّ صلعم نساءه في غير بيوتهنِّ، أي: ويُذْكَر عن معاوية رفعُه «غير أن لا تُهْجَر»؛ أي: رُوِيَتْ عنه قصَّة الهجر مرفوعةً، إلَّا أنَّهُ قال: لا تُهْجَر إلَّا في البيت، وهذا الذي لمحه غلطٌ محضٌ، فإنَّ معاوية بن حيدة مَا روى قصَّة هجر النَّبِيِّ صلعم أزواجه، ولا يوجد هذا في شيءٍ مِنَ المسانيد ولا في الأجزاء، وليس مراد البُخَاريِّ ما ذكره، وإِنَّما مراده حكاية ما ورد في سياق حديث معاوية بن حيدة، فإنَّ في بعض طرقه: «ولا يقبِّح ولا يضرب الوجه غير أن لا تُهجَر إلَّا في البيت»، فظنَّ الكَرْمَانِيُّ أنَّ الاستثناء مِن تصرُّف البُخَاريِّ، وليس كذلك بل هو حكايةٌ منه عمَّا ورد مِن لفظ الحديث، انتهى.
          قُلْت: نسبة الكَرْمَانِيِّ إلى غلطٍ محضٍ غلطٌ محضٌ منه، وفيه ترك الأدب، وذلك أنَّ الكَرْمَانِيَّ ما تصرَّف في هذا الحديث إلَّا على حسب ما يقتضيه اختلاف الروايتين المذكورتين اللَّتين ذكرهما، ومع هذا يحتمل أن يكون معاوية قد روى قصَّة هجر النَّبِيِّ صلعم نساءه، فإنَّ باب الرواية واسعٌ جدًّا، وقوله: (فإنَّ معاوية بن حيدة ما روى قصَّة هجر النَّبِيِّ صلعم أزواجه، ولا يوجد هذا في شيءٍ مِنَ المسانيد ولا في الأجزاء) دعوى بلا برهانٍ، وليت شعري! / كيف يدَّعي هذه الدعوى وهو لم يُحِطْ ما جاء مِنَ المسانيد ومِنَ الأجزاء؟ ولا وقف هو على قدر عُشر مِعشار ما رُوِيَ عن النَّبِيِّ صلعم ؟؟ على أنَّ كلام الكَرْمَانِيِّ إثباتٌ، وكلامه نفيٌ، والإثبات مقدَّمٌ؛ لأنه إخبارٌ عن موجودٍ، والنفي إخبارٌ عن معدومٍ.
          وقال صاحب «التلويح»: قول البُخَاريِّ: «ويُذْكَر عن معاوية...» إلى آخره: يريد بذلك ما رواه أبو داود.
          قُلْت: رواه أبو داود في (كتاب النكاح) في (باب حقِّ المرأة على الزوج) : حَدَّثَنَا موسى بن إسماعيل قال: حَدَّثَنَا حمَّادٌ قال: حدَّثنا أبو قزعة سُوَيد بن حُجَيْرٍ الباهليُّ عن حكيم بن معاوية القشيريِّ عن أبيه قال: قُلْت: يا رسول الله؛ ما حقُّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمتَ، وتكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تهجر إلَّا في البيت»، قال أبو داود: «ولا تقبِّح» أن تقول: قبَّحكِ الله، وقال المُهَلَّب: وهذا الذي أشار إليه البُخَاريُّ لا يكون إلَّا في غير بيوت الزوجات مِن أجل ما فعله صلعم ، أراد أن يستنَّ الناس بذلك في هجر نسائهم؛ لما فيه مِنَ الرفق؛ لأنَّ هجرانهنَّ في بيوتهنَّ آلم لقلوبهنَّ وأوجع لما ينظرن مِنَ الغضب والإعراض، ولما في غيبة الرجل عن أعينهنَّ مِن تسليتهنَّ عن الرجال، قال: وهذا الذي أشار إليه ليس بواجبٍ؛ لأنَّ الله تعالى أمر بهجرانهنِّ في المضاجع فضلًا عن البيوت، ورُدَّ عليه بأنَّ الهجران في غير البيوت أنكى لهن وأبلغ في عقوبتهنَّ، روى ابن وهبٍ عن مالكٍ: بلغني أنَّ عُمَر بن عبد العزيز ☺ كان يغاضب بعض نسائه، فإذا كانت ليلتها بات عندها، ولم يبت عند غيرها مِن غير أن يكلِّمها ولا ينظر إليها، قُلْت لمالك: وذلك له واسعٌ؟ فقال: نعم، وذلك في كتاب الله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}[النساء:34] وقيل: الحقُّ في هذا أنَّهُ يختلف باختلاف الأحوال، فربَّما يكون الهجران في البيوت أشدَّ مِنَ الهجران في غيرها، وبالعكس، بل الغالب أنَّ الهجران في غير البيوت أشدُّ ألمًا للنفوس، ورُبَّ نسوةٍ يتألَّمن بمجرَّد بيتوتة الرجل في غير بيوتها مِن غير هجرانٍ، ولا سيَّما مع الهجران، وهذا ظاهرٌ لا يخفى.