التوضيح لشرح الجامع البخاري

حديث ابن مسعود: أنه أتى أبا جهل وبه رمق

          ذكر فيه أحاديثَ:
          3961- أحدها: حديث عَبْدِ اللهِ ☺: (أَنَّهُ أَتَى أَبَا جَهْلٍ وَبِهِ رَمَقٌ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهْ؟)
          3962- 3963- ثانيها: حديث أَنَسٍ ☺ قَالَ: (قَالَ النَّبِيُّ صلعم: مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟ فَانْطَلَقَ ابن مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، قَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ. قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَوْ: رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟) وأخرجه مسلم أيضًا.
          3964- ثالثها: وعَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي بَدْرٍ، يَعْنِي حَدِيثَ ابنَيْ عَفْرَاءَ).
          وقد سلف كلُّ ذلك في باب: مَنْ لم يُخَمِّسَ الأسلاب واضحًا [خ¦3141] فراجعْهُ.
          ومعنى (بَرَدَ) سقط ولم يبقَ إلاَّ خروجُ نَفْسه، وقال ابنُ فارس: (بَرَدَ) مات، ولعلَّه أراد أنَّهُ في حُكم الميِّت، ودليلُه قوله: (وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟) قال ابن فارس: ويُقال للسُّيوف: البَوارِد، أي القواتل عند قوم، وقال آخرون: مسُّ الحديد بارد.
          وقوله: (أَأَنْتَ أَبَا جَهْلٍ؟) يجوزُ على قولٍ بعيد، مثله قوله:
إنَّ أَبَاها وأَبَا أَبَاها                     قَدْ بَلَغَا في المجدِ غَايَتَاها
          وقال الدَّاوُديُّ: يحتملُ معنيين، أحدُهما: أنْ يقولَ له ذلك ويستحلَّ اللَّحنَ ليغيظَ أبا جهل كالمصغِّر له، الثَّاني: إضمارُ أعني، وفيهما نظر كما أبداه ابن التِّين معلِّلًا بأنَّهُ إنِّما يصحُّ إذا كَثُرتْ فيه النُّعوتُ، ويغيظه في مثل هذِهِ الحال فاللَّحن فيه بُعدٌ.
          ومعنى (أَعْمَدُ...) إلى آخره: فوق رجلٍ قتله قومُه، كذا فسَّره أبو عُبيد في «غريبه»، قال السُّهيليُّ: وفسَّره ابن هشام بقوله: ليسَ عليه عارٌ، وهو بمعناه، قال: وهو عندي مِنْ قولهم: عَمَدَ البعيرُ يعمد إذا تفضَّخ سنامُه فهلكَ، أي أهلكُ من رَجُلٍ قتلَهُ قومُهُ.
          قلت: كلُّه في «غريب أبي عُبيد» وهذا لفظه: قوله: (أعمدُ) يقول: هل زادَ على سيِّدٍ قتلهُ قَوْمُه؟ وفي نسخة عبيدةَ: أي هل كان ذلك إلَّا هذا، يقول: إنَّ هذا ليس بعارٍ عليَّ، وكان أبو عُبيدة يحكي عن العرب: أَعْمَدُ مِنْ كَيلِ مُحِقٍّ، أي هل زاد على هذا؟. وقال الدَّاوُديُّ: قاله تكبُّرًا وعتوًّا واحتقارًا لغيره، قال: وهو مِنَ الأضداد لقوله تعالى: {لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]، وفي رواية: فَلَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي، يريد الأنصار لأنَّهم أصحاب نخل وزرع، وفي رواية أبي الحسن: هَلْ أعذرتكَ أَعْمَد، أي أنَّهُ معذور، وقال الأزهريُّ في «تهذيبه» عن شمر: إنَّهُ استفهام، أي أعجزُ مِنْ رجلٍ قتلَهُ قومُه، وفي رواية: أنَّ أبا جهل قال لابن مسعود: لِمَن الدَّائرةُ؟ قال: للهِ ولرسولهِ، وأنَّ ابنَ مسعود جعل رِجْلهُ على جبينهِ، فقال أبو جهل: يا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ، لقد ارتقيتَ مُرْتَقًا صَعْبًا. وذكر عِياض أنَّ ابن مسعود إنَّما وضع رِجْلهُ على عُنق أبي جهل لتصدُقَ رؤياه، أي فإنَّهُ رأى ذلك منامًا.
          وقوله: (قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ) قد سلف الكلام فيهما في الباب المذكور، ولم يُجرَّد قرشيٌّ يوم بدرٍ غيره، جرَّدَهُ ابن مسعود كما أسلفناه هناك، وروى الواقديُّ أنَّهُ صلعم سأل عِكرمةَ بنَ أبي جهلٍ: ((مَنْ قتلَ أباكَ؟)) قال: الَّذِي قَطَعْتُ يَدَهُ، فدفع رَسُول الله صلعم سيفَه لمعاذ بن عمرو بن الجَمُوح فهو عند آلهِ، وقد أسلفنا هناك أنَّهُ قتلَه ابنُ مسعود، وعن أبي إسحاق: لمَّا جاء النَّبِيَّ صلعم البشيرُ بقتل أبي جهل استحلفَهُ ثلاثة أيمانٍ بالله الَّذِي لا إله إلا هو لقد رأيتَهُ قتيلًا، فحلفَ له فخرَّ صلعم سَاجِدًا، وعن عُروة قال: التمسَ رَسُولُ الله صلعم أَبَا جهل فلم يجدْهُ حَتَّى عُرفَ ذلك في وجهه وقال: ((اللُّهمَّ لا يُعْجِزنَّ فِرعونُ هَذِه الأمَّةِ)) فسعى له الرِّجال حَتَّى وَجَده ابنُ مسعود.