التوضيح لشرح الجامع البخاري

حديث كعب بن مالك

          ░79▒ (بَاب حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118])
          4418- ذكرَ فيه قصَّتَهُ بطولها، وقد سلف بعضُه في الجهاد [خ¦2947]، وأشرنا إلى أنَّ البُخَاريَّ خرَّجه في عشرة مواضع مِنْ «صحيحه» مطوَّلًا ومختصرًا. /
          وقوله: (وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا) يعني بدرًا، وقد سلف هناك: ولم يُعَاتبِ اللهُ أحدًا تخلَّف عنها، بزيادة الجلالة.
          وقوله: (إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا) أي سترَ، كما سلف في موضعه.
          وقوله: (فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ) أي كشف وبيَّن وأظهر، مثل قوله تعالى: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187] وهو مخفَّفٌ.
          وقوله: (لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ) وفي بعض النُّسخ: <عَدُوِّهم>، والأُهْبَةُ _بضمِّ الهمزة_ ما يحتاجون إليه ويَسْتَعدُّونه.
          وقوله: (حتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الجِدُّ) (الجِدُّ) بكسر الجيم جهادٌ في الشَّيء والمبالغة فيه، قال ابن التِّينِ: وضُبِط في بعض الكُتب برفع <النَّاسُ> على أنَّهُ فاعلٌ، ويكون <الجِدَّ> منصوبًا بإسقاط حرف الخفض، وقيل: نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، فكأنَّهُ قال: اشتدَّ النَّاس الاشتدادَ الجِدَّ، ويجوز نصب <النَّاسَ> ورفع <الْجِدُّ> على إسقاط الخافض مِنَ <النَّاس>.
          وقوله: (حتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغَزْوُ) أي تباعد، ويئستُ مِنَ اللَّحَاق، وكلُّ شيءٍ سبق فقد فَرَط.
          وقوله: (وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ) فيه تمنِّي ما فات فعلُه.
          وقوله: (مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ)، وفي مسلمٍ: ((في النِّفَاق)) أي مُتَّهَمًا مُسْتَحقرًا، يقال: غَمَصْتُ فلانًا واغتمصتُهُ إذا استحقرته واستصغرته.
          وقوله: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ) هو بكسر اللَّام (يَا رَسُولَ اللهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ) البُرْدٌ: واحد البُرود، و(عِطْفِه) جانبه، يقال: ثَنَى فلانٌ عليَّ عِطْفَه، أي أَعْرَض عنَّي.
          وقوله: (فَقَالَ مُعَاذٌ: بِئْسَ مَا قُلْتَ) فيه: كراهة السَّبِّ لِمَنْ يُشَار إليه بالشَّرف.
          وقوله: (فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ) أي عزَمْتُ عليه.
          وقوله: (لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ) أي ليُعْجلنَّ، يقال: أوشك فلانٌ خروجًا، مِنَ العَجَلة.
          وقوله: (وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ) أي وثبوا، و(قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ صلعم) أي كافيْك مِنْ ذنبكَ، فأسقط حرف الجرِّ، ونصبَ (كَافِيَكَ) لأنَّهُ خبر (كَانَ) واسمها (اسْتِغْفَارُ).
          وقوله: (يُؤَنِّبُونِي) أي يلوموني، وفيه التأسِّي بالغير، فإنَّ المصيبةَ إذا عمَّت هانت بخلافِ ما إذا خَصَّت، وهذا في الدُّنيا موجودٌ، وفي الآخرة مفقودٌ، قال تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، وفي نهي النَّاس عن كلامهم أنَّ للإمام أن يؤدِّبَ بعضَ أصحابِه بالهُجران، وإن جاوز ذلك ثلاثة أيَّامٍ.
          وقوله في مُرَارَةَ بْن الرَّبِيعِ العُمرِيِّ، وَهِلَالِ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيِّ أنَّهما ممَّن شهدا بدرًا غريبٌ ذلك، كما نبَّهتُ عليه فيما مضى، ولم يذكر أحدٌ مِنْ أهل السِّير أنَّهما شهداها.
          وقوله: (وَنَهَى المُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ) هو بالرفع، وموضعُه بالنصب على الاختصاص، قال سِيْبويه عن العرب: اللهُمَّ اغفرْ لنا أيَّتها العِصَابةُ.
          وقوله: (مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ) هو بفتح الجيم، أي مِنْ جفائهم، و(تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ) علوت سورَه، وأَبُو قَتَادَةَ هو الحارث بْنُ رِبْعِيٍّ، ومعنى (أَنْشُدُكَ) أسألك، وأصله رفعُ الصَّوت بذلك.
          وقوله: (وَلاَ مَضيعَةٍ) هو بإسكان الضَّاد وكسرها، أي حيث يُضَاع حقُّكَ.
          وقوله: (فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ) أي قصدتُهُ وأحرقتُها، وأنَّثَهُ على معنى الصَّحيفة.
          وقوله: (فَسَجَرْتُهُ بِهَا) أي حميته، وحَمَيت البئر: ملأته ماء، وسَجَّرت السَّماءَ بالمطر.
          وقوله: (فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الحَقِي بِأَهْلِكِ، فَكُونِي عِنْدَهُمْ، حتَّى يَقْضِيَ اللهُ) هو من الكنايات.
          قوله: (فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللهِ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لْامْرَأَةِ هِلَالَ أَنْ تَخْدِمَهُ) لعلَّه عبَّرَ عن الإشارة بالقول، وإلَّا فقد نهى عن مكالمته، وفيه إحراقُ الكتاب الذي فيه المكروه، وفيه اعتزالُ النِّساء عندَ الذَّنْب الَّذي لا يُعلم المخْرَج منه.
          وقوله: (أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ) أي أشرفَ وصعد وعلا، و(سَلْعٍ) جبلٌ معروفٌ بالمدينة.
          وقوله: (فَخَرَرْتُ سَاجِدًا) فيه: سجود الشُّكر، وكَرِهَهُ مالك، وذكر ابن القصَّار جوازَه.
          وقوله: (نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ، فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ، وَوَاللهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ) أي مِنَ اللِّباس، وإلَّا فكان له مالٌ، ولذلك قال: (إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً).
          وقوله: (فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا) أي جماعةً جماعةً.
          وقوله: (لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ) هو بكسر النُّون، وصوَّب ابنُ التِّينِ الفتحَ لأنَّ أصلَه يَهنَأُ بفتح النُّون.
          وقوله: (فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) كانا أخوين آخى بينهما رسول الله صلعم.
          وقوله: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ) فيه كراهية التَّصدُّق بكلِّ ماله، ولعلَّهُ عَلِم منه أنَّهُ لا يقَدِر على الصَّبر على الضُّرِّ والإضاقة.
          وقوله: (مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَبْلاَهُ اللهُ فِي صِدْقِ الحَدِيثِ) يقال: أبلاه اللهُ بلاءً حسنًا، وبلوت يكون للخير والشَّرِّ، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، والمراد هنا النِّعمة، ومنه قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49]، أي نقمةٌ، وأصلُه الاختبار، وأكثرُ ما يأتي مطلقًا في الشَّرِّ، فإذا جاء في الخير جاء مقيَّدًا، كما قال: {بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال:17]، وقال ابنُ قتيبة: يُقَال: أبلاه الله يُبليه إبلاءً حسنًا، وبلاه يَبْلُوهُ بلاءً في الشَّرِّ، وقال صاحب «الأفعال»: بلاه الله بالخير والشَّرِّ بلاءً اختبرَه به ومنعَه له، وأبلاه بلاء حسنًا: فعلَه به.
          وقوله: (أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ) قال القاضي: كذا في نُسَخ البُخَاريِّ ومسلمٍ، والمعنى: أن أكونَ كذبته، و(لَا) زائدةٌ، كما قال: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12] أي أن تسجد.
          وقوله: (قَالَ كَعْبٌ: كُنَّا تَخَلَّفْنَا) كذا في البُخَاريِّ، وفي مسلمٍ: خُلِّفْنَا.
          وقوله: (وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللهِ) أي أخَّرَ.
          وقول كعبٍ في تفسير: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]: ليس هو تخليفُه عَنِ الغَزوِ، وَإنَّمَا هو تَخْليفُه إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عمَّن حَلَف له واعتذر إليه فقبل منه. حُكِي عن مُحمَّد بن يزيد أنَّهُ قال: معنى {خُلِّفُوا}: تُرِكُوا لأنَّ معنى خَلَّفت فلانًا: فارقته قاعدًا عمَّا نهضت فيه، وفسَّرها عِكرمة: {خُلِّفُوا} أي أقاموا بَعَقِب النَّبِيِّ صلعم، وقرأ جعفر بن مُحمَّدٍ: {خَالَفُوا}، وقال أبو مالكٍ: معناه: عن التَّوبة.
          وفي حديث كعبٍ غير ما سلف: ذكرُ الرَّجل لما بلي به ليُوفي بالحديث على وجهه، وفيه تفضيل كعبٍ ببيعة العَقَبة لأنَّها أوَّل بيعةٍ في الإسلام، وذَلِكَ أنَّهم واعدوا رَسُولَ الله صلعم أن يأتيَهم إلى المدينة مهاجرًا إذا أُذِنَ له، وفيه أنَّهُ كان مِنَ السَّابقين الأوَّلين الَّذين صلَّوا القبلتينِ، وغير ذلك.