التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب بعث النبي خالد بن الوليد إلى بنى جذيمة

          ░58▒ (بَابُ: بَعْثِ النَّبِيِّ صلعم خَالِدَ بْنَ الوَلِيد إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ)
          4339- ذكرَ فيه حديثَ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ ☺: (بَعَثَ النَّبِيُّ صلعم خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إلى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إلى الإِسْلاَمِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ صَبَأْنَا...) الحديث.
          وقد سلف قبل بَدْء الخلق واضحًا [خ¦58/11-4943].
          قال الدَّاوُديُّ: لم يرَ ◙ القَوَدَ في ذلك لأنَّه تأوَّل ولم يذكر فيه دِيَةً ولا كفَّارةً، فإمَّا أن يكون قبل نزول الآية أو سقطَ على المُحدِّث، أو سكت عنه لعلم السَّامع، وقال الخطَّابيُّ: إنَّما نقم ◙ على خالدٍ في استعجاله في شأنهم وتركَ التَّثبُّتَ في أمرهم إلى أن يستبرئَ المرادَ مِنْ قولهم: صبأنا، لأنَّ الصَّبأ مقتضاه الخروج مِنْ دين إلى دينٍ، يقال: صَبَأ الرَّجل وهو صابئٌ إذا خرج مِنْ دينٍ، ولذلك دعا المشركون نبيَّنا صلعم الصَّابئ، وإنَّما تأوَّل خالدٌ في قولهم فيما يرى أنَّهُ كان مأمورًا بقتالهم إلى أن يسلِمُوا، وقولهم: (صَبَأْنَا) يُحتملُ أن يكون معناه: خرجنا مِنْ ديننا إلى دينٍ آخر غير الإسلام، فلمَّا لم يصرِّحوا بالدُّخول في الإسلام نفَّذ خالدٌ الأمر الأوَّل في قتالهم إذ لم يجد شريطة حقن الدَّم بصريح الاسم، ويحتمل أنَّهُ إنَّما لم يكفَّ عنهم مِنْ قِبَل أنَّهُ ظنَّ إنَّما عدلوا عن اسمِ الإسلام إليه أَنَفةً مِنَ الاستسلام والانقياد، فلم يرَ ذلك القول إقرارًا بالدِّين.
          وقد رُوي أنَّ ثُمَامةَ بنَ أَثالٍ لمَّا أسلمَ دخل مكَّة معتمرًا، فقال له كفَّار قريشٍ: أصبأت؟ فقال: لا، ولكن أسلمتُ، وهو مثل حديثِه الآخر أنَّهُ بعثه صلعم إلى أناسٍ مِنْ خَثْعَمَ، فاعتصموا بالسُّجود فقتلَهم، فوداهم النَّبِيُّ صلعم بنصف الدِّيَة، وإنَّما كان عُذِر خالدٌ في هذا لأنَّ السُّجود لا يتمحَّض لدلالته على قَبول الدِّين لأنَّ كثيرًا مِنَ الأمم يعظِّمون رؤساءهم بالسُّجود لهم ويُظهرون لهم الخضوع بأنْ يَخِرُّوا على وجوهِهم، قال: وفيه دليلٌ أنَّ الكافر إذا لاذَ بالصَّلاة لم يكن ذلك منه إسلامًا حتَّى يصفَ الدِّين قولًا بلسانه، وقيل: لمَّا قَتَلَ اللهُ مُسَيلمةَ وقتل خالدٌ بني جَذِيمة، قال له مالك بن نُوَيرة وكان قد أسلم: ما قال صاحبك في كذا؟ يعني رسولَ الله صلعم، فقال له خالدٌ: وليس بصاحبكَ؟ فأُمر به فقُتِل، فشُكي ذلك منهم إلى أبي بكرٍ، وأشار عليه عمر أن يُقيد مِنْ خالدٍ، فسكتَ عنه، فلمَّا أكثر عليه، قال له أبو بكرٍ: ليس ذلك عليه، هَبْهُ تأوَّل فأخطأ.
          وفيه دليلٌ أنَّ مفهومَ الخطاب يجري مجرى الخطاب، وأنَّ مَنْ تكلَّم بكلامٍ في معاني كلام الإيمان يريد به الإيمان كان مؤمنًا، قاله الدَّاوُديُّ، لأنَّهُ ◙ لم يرضَ بصنعِ خالدٍ وإنَّما عذَّره في ذلك، وقد أسلفنا عن الخطَّابيِّ أنَّ الكافرَ إذا لاذَ بالصَّلاة لم يكن ذلك منه إسلامًا.
          فصلٌ: أسلفنا هذِهِ السَّريَّة عند ابن سعدٍ قبل حُنينٍ، وأنَّها في شوَّالٍ سنة ثمانٍ، قال: وكانوا بأسفل مكَّة على ليلةٍ ناحية يَلَمْلَم وهو يوم الغُمَيْصاء بعدَ رجوع خالدٍ مِنْ هدم العُزَّى، أرسلَه صلعم داعيًا إلى الإسلام لا مُقاتلًا في ثلاث مئةٍ وخمسين رجلًا مِنَ المهاجرين والأنصار وبني سُليمٍ، فخرجوا إليهم وعليهم السِّلاح، وكانوا أسلموا وبنَوا المساجد وأذَّنوا وصلَّوا، فقال: فَمَا هذا السِّلاح؟ قالوا: ظننَّا أنَّكُم عدوٌّ، فقال: ضَعُوا السِّلاح، فوضعُوه، فاستأسرَهُم وقَتَل منهم، فلمَّا قَتَلَهم أَرْسلَ ◙ عليًّا فَوَدَى لهم قَتْلَاهُم وما ذهبَ منهم، و(جَذِيمَةَ) هو ابنُ عامر بن عبد مَناة بن كِنَانة.