التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب حديث بنى النضير

          ░14▒ (بَابُ: حَدِيثِ بَنِي النَّضِيْرِ، وَمَخْرَجِ رَسُولِ اللهِ صلعم إِلَيْهِمْ فِي دِيَةِ الرَّجُلَيْنِ، وَمَا أَرَادُوا مِنَ الغَدْرِ بِرَسُولِ اللهِ صلعم.
          قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: كَانَتْ عَلَى رَأسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَبْلَ أُحُدٍ، وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر:2]، وَجَعَلَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَأُحُدٍ).
          قد سلف الكلامُ على ذلك قريبًا واضحًا، والنِّسبة إلى بني النَّضِيْر نَضَرِيٌّ، وهي عند ابن إسحاق في شهر ربيعٍ الأوَّل على رأس خمسةِ أشهرٍ مِنْ وقعة أُحُدٍ، وهو خلاف ما في الكتاب عن عروة، قال موسى بن عُقبة: وكانوا قد دَسُّوا إلى قُريشٍ في قَتْلِ / رَسُولِ اللهِ صلعم، فحضُّوهم عليه ودلُّوهم على العَورة.
          وقال ابن سعدٍ: خرج إليهم يوم السَّبت في ربيعٍ الأوَّل على رأس سبعةٍ وثلاثين شهرًا مِنْ مُهاجَرَهِ، وذكرَ عبد بن حُميدٍ في «تفسيره» عن قَتادَةَ: كانت مرجعه مِنْ أُحدٍ، وعن عِكرمة: هي قبل قتل ابن الأَشْرف، وأنَّهُ في صبيحةِ قتلِه أجلاهم، فقالوا: ذَرْنا نبكي على سيِّدنا، فقال لهم: ((لَا)) قالوا: فَحَزَّةٌ على حزَّةٍ؟ قال: ((نَعَم)).
          وقول الزُّهْريِّ الَّذي ذكره البُخَاريُّ أسندَه الحاكمُ في «إكليله» مِنْ حديث موسى بن المُسَاوِرِ عن عبد الله بن مُعاذٍ عن مَعْمرٍ عنه به، وفي «الإكليل» عن عُروة: بنو النَّضيْر ثُمَّ ذاتُ الرِّقَاع ثُمَّ دُوْمةُ الجَنْدلِ ثُمَّ الخندقُ، ويأتي في «الصَّحيح» [خ¦4117] عن عائشةَ ♦: لمَّا رجعَ صلعم مِنَ الخندق ووضعَ السِّلاحَ، أتاهُ جبريل فقال: وضعتَ السِّلاحَ! واللهِ ما وضعناه، اخرجْ إليهم، فقال: ((إِلَى أَيْنَ))؟ قال: إلى هاهنا وأشار إلى بني قُريظة. وقال الحاكم: اتَّفق أهل المغازي على خِلافه، بعدَ إجماعهم أنَّها قبل الخندق على خِلافٍ بينهم في وقته، قال: وغزوة قُريظة والنَّضيْر وأُحُدٍ، وتابع ابنَ إسحاق على ذكرها هنا أبو مَعْشرٍ وابن سعدٍ ومقاتلٌ والفرَّاء والزَّجَّاج، ونقله إسماعيل بن زيادٍ عن ابن عبَّاسٍ.
          فصلٌ: والرَّجلان هما اللَّذان قتلَهما عمرو بن أُميَّة الضَّمْريُّ حين قُتِل أصحابُ بئر مَعُونة، وكان عمرٌو ورجلٌ آخرُ في سَرْحهم، قال ابن هشامٍ: هو المُنْذِر بن مُحمَّدٍ؛ قُتِلَ لمَّا قاتل وأَسَرُوا عمرًا ثُمَّ أطلقَه عامر بن الطُّفيل عن رقبةٍ زعمَ أنَّها كانت على أمِّه، فخرج عمرٌو حتَّى إذا كان بالقَرْقَرة مِنْ صدر قَنَاةٍ أقبل رجلان _مِنْ بني عامرٍ، قال ابن هشامٍ: ثُمَّ مِنْ بني كِلابٍ، وذكر أبو عمرَ أنَّهما مِنْ بني سُليمٍ_ حتَّى نزلا معه في ظلٍّ هوَ فيه، فكان مع العامريَّينِ عقدٌ مِنْ رَسُولِ الله صلعم وجِوارٌ لم يَعلم به عمرٌو، وقد سألهما حين نزلا: ممَّن أنتما؟ فقالا: مِنْ بني عامرٍ، فأمهلهما حتَّى إذا ناما عَدَا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنَّهُ قد أصاب بهما ثُؤْرَه.
          وروى ابن عبَّاسٍ ☻ فيما ذكره أبو نُعَيْمٍ في «دلائله»: أنَّهُ صلعم أتى بني قُريظة فسألهم فرحَّبوا به، وقالوا: إخوانُنا مِنْ بني النَّضِيْر لا نُحبُّ أنْ نقطعَ أمرًا دونَهم، نُعلمُهم وتأتينا يومَ كذا، فلمَّا جاء يوم وَعَدَهم أدخلوه في صُفَّةٍ لهم، ثُمَّ خرجوا يجمعون له السِّلاح وينتظرون ابن الأشرف أن يَقدُم مِنَ المدينة ليثوروا على رَسُول الله صلعم، فنزل عليه جبريل بِخَبَرِهم، فقام ولم يُؤْذِنْ أصحابَه مخافةَ أنْ يثوروا إليهم، فوقف على باب الحُجرة، فلمَّا أبطأَ خرجَ عليٌّ فقال: يا رَسُولَ الله، أبطأتَ علينا، فقال: ((غَدَرَتْ بِي يَهودُ، أَقِمْ مَكَانَكَ فَإِذَا خَرجَ بَعضُ أَصحابِكَ فأخبرْهُ بالأمرِ))، وأوقفَه حتَّى يخرج صاحبُه، وكان معه أبو بكرٍ وعمر.
          وفي لفظٍ: أنَّ بني النَّضيْر لمَّا توامَروا ألقَوا عليه حَجَرًا فأخذَه جبريل، وقال ابن إسحاق: فلمَّا قَدِم عمرٌو على رَسُولِ الله صلعم وأخبرَه، قال صلعم: ((لَقَدْ قَتَلْتَ قَتيلَيْنِ، لَأَدِيَنَّهُمَا)) قال: وكان بين بني النَّضيْر وعامرٍ حِلْفٌ وعقدٌ، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، نُعينُكَ، ثُمَّ خَلَا بعضُهم ببعضٍ، فقالوا: إنَّكم لن تجدُوا الرَّجل على مثلِ حاله هذِهِ، ورسولُ الله صلعم إلى جَنْب جِدارٍ مِنْ بيوتهم قاعدٌ، فمَنْ رجلٌ يعلو على هذا البيت فيُلقي عليه صخرةً فيُريحُنا منه؟ فَانتدبَ لذلك عمرو بن جِحَاش بن كعبٍ أحدُهم، فقال: أنا لذلك، فصَعِدَ ليُلقي عليه صخرةً كما قال، ورسولُ الله صلعم في نفرٍ مِنْ أصحابه، فيهم أبو بكرٍ وعمر وعليٌّ.
          زاد أبو نُعَيْمٍ: والزُّبَير وطلحة وسعد بن معاذٍ وأُسَيد بن حُضَيرٍ وسعد بن عُبادة، فقال حُيَيُّ بن أَخْطَب: قد جاءكم مُحمَّدٌ في نُفَيرٍ لا يبلغونَ عشرةً، فاطرحوا عليه حجارةً فاقتلوهُ. قال ابن إسحاق: فأَتى رَسُولَ الله صلعم الخبرُ مِنَ السَّماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، فلمَّا استلبثَ أصحابُ رَسُول الله صلعم قاموا في طلبِه فلقُوا رجلًا مُقبِلًا مِنَ المدينة، فسألوا عنه فقال: رأيتهُ داخلًا المدينة، فأسرعَ الصَّحابةُ حتَّى انتهوا إليه فأخبرهم بما كانت اليهود أرادتْ مِنَ الغَدرِ به.
          قال موسى بن عقبة: ونزل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} الآية [المائدة:11]. زاد ابنُ سعدٍ: وإنَّ ابنَ جِحَاشٍ لمَّا هَمَّ بما هَمَّ به، قال سَلَّام بن مِشْكَمٍ: لا تفعلوا، والله ليُخبَرنَّ بما همَمْتُم به، وإنَّهُ لنقضُ العهدِ الَّذي بيننا وبينَه، وبعث إليهم رَسُول الله صلعم مُحمَّدَ بنَ مَسْلَمة أنِ اخرجُوا مِنْ بلدي ولا تُسَاكنوني بها وقد هَمَمْتُم بما هممتم به مِنَ الغَدْرِ، وقد أجَّلتُكم عشرًا، فمَنْ رُئيَ بعدَ ذلك ضُرِبتْ عنقُهُ، ومكثُوا أيَّامًا يتجهَّزون، فأرسلَ إليهم ابنُ أُبيٍّ فثبَّطهم، فأرسلوا إلى رَسُول الله صلعم: إنَّا لا نخرجُ فاصنعْ ما بدا لك، قال صلعم: ((اللهُ أَكْبرُ حَارَبَتْ يَهودُ))، فخرج إليهم، فاعتزلتهم قُريظة فلم تُعِنهم، وخَذَلهم ابنُ أُبَيٍّ وحلفاؤهم مِنْ غَطَفان، وحاصرهم خمسةَ عشرَ يومًا، وكذا ذكر المدَّة المذكورة أبو مَعْشرٍ وابن حِبَّان وتُوبِعا، وفي ابن إسحاق عن ابن هشامٍ: ستَّ ليالٍ ونزل تحريمُ الخمر، وقال سليمان التَّيميُّ: قريبًا مِنْ عشرين ليلةً، وقال ابن الطَّلَّاع: ثلاثةً وعشرين يومًا، وعن عائشة: خمسةً وعشرين يومًا، وفي «تفسير مقاتلٍ»: إحدى وعشرين ليلةً، قال ابن سعدٍ: ثُمَّ أجلاهم فتحمَّلوا على ستِّ مئة بعيرٍ وكانت صفيًّا له، حبسًا لنوائبه، ولم يُخَمِّسْهَا ولم يُسْهِم منها لأحدٍ إلَّا لأبي بكرٍ وعمر وابن عوفٍ وصُهيب بن سنان والزُّبَير بن العوَّام وأبي سَلمة بن عبد الأسد وأبي دُجَانة.
          وروى عبد بن حُميدٍ في «تفسيره» عن عبد الرَّزَّاق عن مَعْمرٍ عن الزُّهْريِّ عن عبد الرَّحمن بن كعبٍ عن رجلٍ له صحبةٌ أنَّ سبب إجلاء بني النَّضِيْر أنَّ كفَّار قريشٍ كتبوا بعد بدرٍ إلى اليهود يُهددونهم فلمَّا بلغهم ذلك اجتمعتْ بنو النَّضيْر على الغدر، وأرسلوا إلى رَسُولِ الله صلعم: اخرجْ إلينا في ثلاثين مِنْ أصحابك، ولنخرج إليك في ثلاثين حَبْرًا، فقالوا بعدُ: اخرجْ في ثلاثةٍ ونحن في ثلاثةٍ ففعلَ، واشتمل كلُّ يهوديٍّ على خنجرٍ للفتكِ به فأرسلت امرأةٌ ناصحةٌ مِنْ بني النَّضيْر إلى أخيها رجلٍ مسلمٍ مِنَ الأنصار فأخبرته، فأقبل أخوها سريعًا حتَّى أدرك رَسُولَ الله صلعم، فسارَّه بذلك فرجعَ، فلمَّا كان مِنَ الغد غَدَا عليهم بالكتائب فأجلاهم، وكانوا مِنْ سِبطٍ لم يُصبْهم جلاءٌ منذ كتَبَ الله ╡ على بني إسرائيلَ الجَلَاءَ فذلك إجلاؤُهم.
          قال عبد بن حُميدٍ: وحدَّثَنا إبراهيمُ بن الحكم عن أبيه عن عكرمةَ أنَّه صلعم غَدَا يومًا إلى بني النَّضِيْرِ ليسألَهم كيف الدِّيَة فيهم، فلم يَرَوا معه أَحَدًا، فائتمَروا بقتلهِ... فذكر الحديث. ولأبي نُعَيْمٍ: نَدِمَ اليهودُ على ما همُّوا به، فقال لهم كِنَانَةُ بْنُ صُورِيا: قد أخبَرَ اللهُ بما هَمَمْتُم، واللهِ إنَّهُ لرسولُ اللهِ فلا تَخْدَعُوا أنفسكُم.
          فائدةٌ: قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2]، قيل: هو أوَّل حشرٍ إلى الشَّام يُحشرُ إليها يوم القيامة، قاله / الأَزْهَريُّ، وقال القُتَبيُّ: {الْحَشْرِ} الجلاءُ، وذَلِكَ أنَّ بني النَّضِيْر أوَّل مَنْ أُخْرِج مِنْ ديارهم، قال ابن التِّينِ: ومخرجُه صلعم.. إلى آخره، لم يأتِ به في الحديث لأنَّهُ مشهورٌ عند غيره، وليس فيه حديثٌ ذو إسنادٍ، وقد أسلفته لك.