التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب غزوة الفتح في رمضان

          ░47▒ (بَابُ: غَزْوَةِ الفَتْح فِي رَمَضَانَ)
          كان خروجه ◙ لها يوم الأربعاء لعشر ليالٍ خلونَ منه بعد العصر سنة ثمانٍ.
          4275- ثُمَّ أسند البُخَاريُّ عن ابن عبَّاسٍ ☻: أنه ◙ (غَزَا غَزْوَةَ الفَتْحِ فِي رَمَضَانَ).
          وعن ابن المسيِّب مثل ذلك، وعن ابن عبَّاسٍ قال: (صَامَ رَسُولُ اللهِ صلعم حَتَّى إِذَا بَلَغَ الكَدِيدَ الْمَاءَ الَّذِي بَيْنَ قُدَيْدٍ وَعُسْفَانَ أَفْطَرَ، فَلَمْ يَزَلْ مُفْطِرًا حتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ).
          وقد سلف في الصَّوم [خ¦1944].
          4276- ثُمَّ أسند عن ابن عبَّاسٍ أيضًا أنَّه ◙ (خَرَجَ فِي رَمَضَانَ مِنَ المَدِينَةِ ومَعَهُ عَشَرَةُ آَلاَفٍ، وذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثمانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ المَدِينَةَ، فَسَارَ بمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ إلى مَكَّةَ، يَصُومُ وَيَصُومُونَ حتَّى بَلَغَ الكَدِيدَ، وَهْوَ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وقُدَيْدٍ، أَفْطَرَ وأَفْطَرُوا، قَالَ الزُّهْريُّ: وإِنَّمَا يُؤخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ الآخِرُ فَالآخِرُ).
          4277- ثُمَّ أسند عن عكرمة عن ابن عبَّاسٍ ☻ قَالَ: (خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلعم فِي رَمَضَانَ إلى حُنَيْنٍ، وَالنَّاس مُخْتَلِفُونَ، فَصَائِمٌ وَمُفْطِرٌ، فَلَمَّا اسْتَوى عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ، فَوَضَعَهُ عَلَى راحته أو رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ النَّاس، فَقَالَ المُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ: أَفْطِرُوا).
          4278- وعنه: (خَرَجَ رَسُول الله صلعم عَامَ الفَتْحِ).
          4279- وعن طاوسٍ عنه: (سَافَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَ نَهارًا لِيَرَاهُ النَّاسُ، فَأَفْطَرَ حتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُ عبَّاسٍ يَقُولُ: صَامَ رَسُولُ اللهِ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ).
          هذا الحديث مِنْ مراسيل الصَّحابة لأنَّ ابن / عبَّاسٍ كان مِنَ المستضعفين بمكَّة كما نبَّه عليه ابن التِّينِ، قال: والكَدِيد العَقَبة المطلَّة على الجُحْفَة، وفي الحديث ردٌّ على جماعةٍ أوَّلُهم عُبيدة السَّلمانيُّ في قوله: ليس له الفطر إذا شهد أوَّل رمضان في الحضر، مستدلًّا بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، وهو عند الجماعة محمولٌ على مَنْ شهده أجمع، إذ لا يُقال لِمَنْ شهد بعض الشَّهر، شهدَه كلَّه، ثانيهم: أبو مِجْلَزٍ في قوله: إذا أدركه الشَّهر مقيمًا فلا يُسَافر، فإن سافر صام، ثالثُهم: الظَّاهريَّة، أنَّهُ لا يصحُّ الصَّومُ في السَّفر.
          وقوله: (وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلاَفٍ) هذا هو المعروف، وفي «شرف المصطفى» عن عروة: اثنا عشر ألفًا، وقال يحيى بن سعيدٍ: في عشرة آلافٍ أو اثني عشر ألفًا، قد أكبَّ على واسطة رَحْله حتَّى كاد ينكسر به، يريد تواضعًا وشكرًا لربه، وقال: ((المُلْكُ للهِ الواحِدِ القَهَّارِ))، وقال مالكٌ: خرج في ثمانية آلافٍ أو عشرة آلافٍ، وكتم النَّاسُ وجهَهُ ذلك لئلَّا يعلم أحدٌ أين يريد، ودعا اللهَ أن يخفي ذلك عنهم.
          وقوله: وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثمانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ الهجرةِ نحوه ما ذكرَه أبو نُعَيْمٍ الحدَّاد في «جمعه بين الصَّحيحين»: كان الفتح بعد السَّنة الثَّامنة، وقال مالكٌ: كان الفتح في تسع عشر يومًا مِنْ رمضان على رأس ثماني سنين، وحقيقة الحساب على ما ذكره الشَّيخ: أبو مُحمَّدٍ في «جامع مختصره» أنَّها سبع سنين وسبعة أشهرٍ لأنَّ الفتح في الثَّامنة في رمضان، وكان مَقدَمَهُ المدينة في ربيعٍ الأوَّل، يدلُّ عليه أنَّ ابنَ عبَّاسٍ قال: أقمنا مع رَسُولِ الله صلعم تسعةَ عشر نَقْصُرُ الصَّلاة، كما سلف في موضعه، وهو لم يحضر الفتح لأنَّهُ كان مِنَ المستضعفين بمكَّة.
          وقوله: (خَرَجَ فِي رَمَضَانَ إِلَى حُنَيْنٍ) كذا وقع ولم تكن غزوة حُنينٍ في رمضان، وإنَّما كانت في شوَّالٍ سنة ثمانٍ، كما نبَّه عليه الدِّمْياطيُّ، وقال ابنُ التِّينِ: لعلَّهُ يريد آخرَ رمضان لأنَّ حُنينًا كانت عام ثمانٍ إثرَ فتح مكَّة، قاله الدَّاوُديُّ، وصوابُه إلى خيبر أو مكَّة لأنَّه صلعم قصدَها في هذا الشَّهر، فأمَّا حُنينٌ فكانت بعد الفتح بأربعين ليلةً، وكان قصد مكَّة أيضًا في هذا الشَّهر، كذا حكاه المجد ابن تيمية في «منتقاه» عن شيخه عبد القادر، قال المحبُّ الطَّبَريُّ: لكن نجوِّز أن يكون ذلك لمَّا قصد ذلك وكان في هذا الشَّهر، وكان قصدُه بعدها حُنينًا، فأطلق عليه الخروج إلى حُنينٍ لاحتمال قصدهما جميعًا، ويجوز فطره بعد الخروج بأيَّامٍ لمَّا بلغ الكَدِيد، لا يوم الخروج.
          ثُمَّ ما ذكر عن شيخه فيه نظرٌ، فقد ذكر بعضُ أهل التَّاريخ أنَّ خروجَه إلى حُنَينٍ كان بعد الفتح بخمسةَ عشرَ يومًا، وذكر بعضُهم دونَ ذلك، كذلك قال ابن التِّينِ: وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ السَّالف في الصَّلاة والآتي في باب: مقامه بمكَّة زمن الفتح قريبًا [خ¦4298] أنَّهُ صلعم أقام بمكَّة تسعةَ عشرَ يومًا يصلِّي ركعتين، يردُّ هذا، لأنَّ مكَّة افتُتحت على ما تقدَّمَ عن مالكٍ يوم تسعة عشر مِنْ رمضان، فكيف يخرج في رمضان وهو بعدُ أقام بمكَّة تسعة عشر يومًا يقصر، اللَّهمَّ إلَّا أن يريدَ أنَّ ذلك في غير زمن الفتح، وأنَّ ذلك كان في حجَّة الوداع أو غيرها.
          وحُنينٌ: وادٍ بمكَّة بينه وبين مكَّة بضعةَ عشر ميلًا، وقال: المعروف أنَّ حُنينًا كانت في شوَّالٍ، وسبب حُنَينٍ أنَّه لمَّا أجمع صلعم على الخروج إلى مكَّة لنصْرَة خُزاعة، أتى الخبر إلى هوازن أنَّهُ يريدهم، فاستعدُّوا للحرب، حتَّى أَتوا سوق ذي المجاز، فسار صلعم حتَّى أشرف على وادي حُنينٍ مساء ليلة الأحد، ثُمَّ صابحَهم يوم الأحد النِّصف مِنْ شوَّالٍ.
          وقوله: (بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ) وقوله بعدَه: (بإناءٍ مِنْ مَاءٍ) لا تعارضَ بينهما لأنَّ الأوَّل شكٌّ والثَّاني جزمٌ، وأمَّا الدَّاوُديُّ فجمع بينهما بأنَّهُ دعا بهذا مرَّةً والآخر أخرى، وجمع ابن التِّينِ بأنَّ الأوَّل كان في حُنينٍ، والثَّاني في الفتح.
          وقوله: (لِلصُّوَّامِ) كذا هو بالألف في الأصول، وذكره ابن التِّينِ بحذفها، وقال هو جمع صائمٍ.
          وقوله: (فَأَفْطَرَ حتَّى قَدِمَ مَكَّةَ) ظاهرُه فصام، لكن سلف قبله: (فَلَمْ يَزلْ مُفطِرًا حتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ).
          وقول ابن عبَّاسٍ: (فَمَنْ شَاءَ صامَ ومَنْ شاءَ أفطرَ) ظاهره التَّخيير، والأفضل عندنا الصَّوم لِمَنْ لم يتضرَّر به، وهو مشهور مذهب مالكٍ خلافًا لابن الماجشون، قال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184].
          وقوله: (لِيَرَاهُ) أي لئلَّا يتكلَّفَ أصحابُه الصَّوم فيضعُفوا عن الحرب، فإذا فعل هو بادروا إلى الفطر، وقيل: يحتملُ أن يريهم ذلك، وقد بيَّت هو الصَّوم للضَّرورة، قاله الدَّاوُديُّ، وجعلَه مُطَرِّفٌ حُجَّةً على فطره وإن بيَّت الصَّوم، ومنعه جماعةُ أصحابِ مالكٍ، وفي الكفَّارة عندهم ثلاثة أقوالٍ، ثالثها: إنْ تأوَّل فِعله صلعم فلا، ورأى ابن القاسم الوجوب.