التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب غزوة الفتح وما بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة

          ░46▒ (بَابُ: غَزْوَةِ الفَتْحِ وَمَا بَعَثَ بِهِ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِغَزْوِ رَسُولِ الله صلعم إِيَّاهُمْ).
          4274- ذكر فيه حديثَ عليٍّ ☺ في كتابةِ حاطبٍ إلى أهل مكَّة، وقد سلف في الجهاد [خ¦3007] فراجعه.
          والظَعِينَةُ المرأةُ كما سلف، وقول عليٍّ ☺: (بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلعم أَنَا وَالزُّبَيْرَ، وَالمِقْدَادَ) أكَّد الضَّمير المنصوب بـ(أَنَا)، كقوله تعالى: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]، وقيل: لا يُؤكَّد بها ضمير المنصوب لأنَّها في موضع رفعٍ، ولا يُؤكَّدُ المنصوبُ بالمرفوع، ويكون: {أَنَا} في الآية فاصلةً على هذا مثل: {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل:20].
          وقوله: (فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ...}) الآية، (إِلَى قَوْلِهِ: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1]) هذا صريحٌ في نزول الآية فيه، وقد ذكره كذلك في التَّفسير [خ¦4890] كما ستعلمه، قال مجاهدٌ: نزلت أيضًا في قومٍ مع حاطبٍ كتبوا إلى أهل مكَّة يحذِّرونهم.
          وقوله تعالى: {بِالْمَوَدَّةِ} أي تُلقون إليهم النَّصيحةَ بالمودَّة، لأنَّ مِنْ لا تُزَاد في الواجب عند البصريِّين، وأجازه بعض الكوفيِّين كما سلف هناك، قال الفرَّاء: دخول الباء وخروجها سواءٌ.
          وقوله تعالى: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ} أي فكيف يخفى عليَّ تحذيركم الكفَّار.
          وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي} فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، المعنى: لا تتَّخذوا عدوِّي وعدوَّكم أولياء إن كنتم خرجتم، هذا ما عليه الأكثر، وقيل: إنَّ في الكلام حذفًا، أي إن كنتم خرجتم جهادًا في سبيلي فلا تُلقُوا إليهم بالمودَّة.
          وقوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} يجوز أن يكون بدلًا وتبعًا مِنْ {تُلْقُونَ}، والأفعال تُبْدَل مِنَ الأفعال، وقيل المعنى: أنتم تُسرُّون إليهم، ثُمَّ خبَّر تعالى بتبرُّؤ إبراهيم مِنَ المشركين وعداوته إيَّاهم، فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة:4].
          فائدةٌ: المرأة المذكورة قد أسلفنا في الجهاد أنَّ اسمها سَارة، أمرَ صلعم بقتلها يوم الفتح مع هندٍ بنت عُتبة وفَرْتَنَى وقُرَيبة وعِكْرمة وهَبَّارٍ وأمِّ سعدٍ، ومِقْيَسِ بْنُ صُبَابَةَ اللَّيثيِّ، والحُويرثِ بن نُقَيذ بن بُجَير بن عبد بن قُصَي، وابنِ خَطَلٍ، ستَّة نفرٍ وأربع نسوةٍ، فقَتلَ منهم ابنَ خَطَلٍ ومِقْيسًا والحويرث، قاله ابن سعدٍ، وأمَّ سعدٍ قاله ابن إسحاق، قال: وكان لابن خَطَلٍ قَيْنَتان تغنِّيان بهجائه صلعم فَرْتَنى وصاحبتها، قال بعضهم: صاحبتها أَرْنب فقُتِلت إحداهما وهربتِ الأخرى حتَّى اسُتؤمن لها مِنْ رَسُولِ الله صلعم بعدُ فآمَّنها، وأمَّا سارة فاسْتُؤمَن لها فآمَّنها، ثُمَّ بقيتْ حتَّى أوطأها رجلٌ مِنَ النَّاس فرسًا زمن عمر بالأبطح فقتلها، وكانت مولاةً لبني عبد المطَّلب.
          والحُويرث قتله عليٌّ وكان نَخَسَ بفاطمة وأمِّ كلثومٍ حين أُرِيدَ بهما المدينة، فرمى بهما الأرض، وكان ابن خَطَلٍ بعثَه مصدِّقًا فقتلَ مُسلمًا وارتدَّ مشركًا، وكان مِقيَسٌ قتل الأنصاريَّ الَّذي كان قُتل أخاه خطأً بعد أخذ دِيَته، ورجع إلى قريشٍ مشركًا، فقتله نُمَيلة بن عبد الله رجلٌ مِنْ قومه.
          فائدةٌ أخرى: حاطبُ بن أبي بَلْتَعَةَ، والبَلْتَعة في اللُّغة: التَّطرُّف، قاله أبو عبيدٍ، واسم أبي بَلْتَعَةَ عمرٌو، وقيل: أبو بَلْتَعَةَ بن عمرو بن عُمير بن سَلَمة بن صَعْب بن سَهْل بن العَتِيك بن سعَّاد _بتشديد العين_ بن راشدة، وكان اسمُه خَالفة فسمَّاه رَسُول الله صلعم رَاشدة، ابنُ أدب بن جَزِيلة _بفتح الجيم وكسر الزَّاي_ ابن لَخْمٍ أخي جُذَام وعاملة، حليفُ عُبيد الله بن حُميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزَّى بن قُصيٍّ، يُكنى أبا مُحمَّدٍ، أو أبا يحيى، أو أبا عبد الرَّحمن، شهد بدرًا والحُديبية وما بعدها، وبعثه رَسُولُ الله صلعم بكتابٍ إلى الْمُقَوْقِسِ صاحبِ مصر والإسكندرية في المحرَّم سنة ستٍّ بُعيد الحُديبية، فأقام عندَه خمسة أيَّامٍ، ورجع بهديَّة، منها ماريةُ أمُّ إبراهيم، وأختُها سيرين وبغلته دُلْدُل، وحماره عُفَير وعَسَلٌ وثيابٌ وغير ذلك مِنَ الطُّرف، ثُمَّ بعثه الصِّدِّيق أيضًا إلى الْمُقَوْقِسِ فصالحهم، فلم يزالوا كذلك حتَّى دخلها عمرو بن العاصي، فنقضَ الصُّلح وقاتلهم وافتتح مصر، وذلك في سنة عشرين في خلافة عمر، وكان شديدًا على الرَّقِيق، انتحر رقيقُه ناقةً لرجلٍ مِنْ مُزَينة، فقال عمر: أراكَ تُجيعُهم، وأضعفَ عليه القيمة على جهة الأدب والرَّدْع، وكان مِنْ فرسان قريشٍ وشعرائهم، مات بالمدينة سنة ثلاثين، وصلَّى عليه عثمان عن خمسٍ وستِّين سنةً، وكان تاجرًا يبيع الطَّعام، وترك يوم مات أربعة آلاف دينارٍ ودراهم وغير ذلك، وفي الصَّحابة حاطبٌ أربعةٌ سواه منهم حَاطِب بن عمرو بن عُبيدٍ الأوسيُّ، بدريُّ أيضًا، لم يذكره ابن إسحاق فيهم.