التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب غزوة مؤتة من أرض الشام

          ░44▒ (بَابُ: غَزْوَةِ مُؤْتَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّأمِ)
          (مُؤْتَةَ) بضمِّ الميم وبالهمز قريةٌ مِنْ أرض البلقاء، أي بأدناها مِنْ أرض الشَّام، وكانت في جمادى الأولى سنة ثمانٍ، والفتحُ بعدها في رمضان، وأمَّا الموتة _بلا همزٍ_ فضربٌ مِنَ الجنون، كما نبَّه عليه السُّهيليُّ، لكنْ في «أمالي» أبي الحسن عليِّ بن سليمان الأخفش: قال أبو العبَّاس مُحمَّد بن يزيد: لا تهمز مُوتة، وقال صاحب «المطالع»: أكثر الرُّواة لا يهمزونها، وأمَّا ثعلبٌ فلم يحكِ في «فصيحه» غيرَ الهمز، وتبعه الجوهريُّ وآخرون، وفي «الواعي» و«الجامع» بالهمز ودونه، واقتصر ابن فارسٍ على الهمز.
          ولمَّا ذكرَ ابنُ إسحاق أنَّ مؤتة قريةٌ مِنْ أرض البلقاء قال: لَقِيهم _يعني زيد بن حارثة ومنْ معه_ جموعُ الرُّوم بقريةٍ مِنْ قرى البَلْقاء يقال لها: مَشَارف، ثُمَّ دنا العدوُّ، وانحازَ المسلمون إلى قريةٍ يقال لها: مؤتة، وهذا منه يُؤذِنُ أنَّ مشارف غير مؤتة، وقد قال المبرِّد: المَشْرَفِيَّةُ: سيوفٌ تُنْسَب إلى المشارف مِنْ أرض الشَّام، وهو الموضع المُلَقَّب بمؤتة.
          فصل: وكان سببُها أنَّهُ صلعم بعثَ الحارث بن عُمَيرٍ الأَزْديَّ أحدَ بني لِهْبٍ _بكسر اللَّام_ بكتابه إلى ملك الرُّوم، وقيل: إلى ملك بصرى، فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرٍو الغسَّانيُّ، فأوثقه كَتَافًا ثُمَّ قُدِّمَ فضُرِبتْ عنقه صبرًا، ولم يُقْتَل لرسول الله صلعم رَسُولٌ غيره، فاشتدَّ ذلك عليه ونَدَب النَّاس فأسرعوا، وأمَّرَ عليهم زيدَ بن حارثة، وقال: ((إنْ أُصِيبَ زيدٌ فجعفرٌ، وإن أُصِيبَ فعبدُ اللهِ بن رواحة)) فتجهَّزوا وتهيَّؤوا وعسكروا بالجُرْف، وهم ثلاثة آلافٍ، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عُمَيرٍ، وأن يدعوا مَنْ هناك إلى الإسلام، فإنْ أجابوا وإلَّا استعانوا عليهم بالله وقاتلوهم، وخرج مُشيِّعًا لهم حتَّى بلغ ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ، فقال المسلمون: دَفَع اللهُ عنكم وردَّكم صَالحين غانمين: فلمَّا ودَّعَ عبدُ الله بن رواحة بَكَى، فقالوا: ما يُبكيكَ؟ فقال: أما واللهِ ما بي حُبٌّ للدُّنيا ولا صَبَابةٌ بكم، ولكنِّي سمعتُ رَسُولَ الله صلعم يقرأ آيةً مِنْ كتاب الله يذكرُ فيها النَّار: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] فكيف بالصَّدَر بعد الورود، ثُمَّ قال:
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحمنَ مَغْفِرَةً                     وضربةً ذَات فرعٍ تَقْذِفُ الزَّبَدا
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً                     بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حتَّى يُقَالَ إذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي                     أَرْشَدَهُ اللهُ مِنْ غَازٍ وَإِنْ رَشَدَا
          ثُمَّ مضَوا حتَّى نزلوا مُعان مِنْ أرض الشَّام _بضمِّ الميم_ وقال الوَقَّشيُّ: الصَّواب فتحها، فبلغ النَّاس أنَّ هِرَقْل نزل مآبَ مِنْ أرض البلقاء في مئة ألفٍ مِنَ الرُّوم، وانضمَّ إليهم مِنْ لَخْمٍ وجُذَام والقَين وبَهْراء وتَغْلب مئة ألفٍ منهم، عليهم رجلٌ مِنْ بَلِيٍّ يقال له: مَالِكُ بْنُ زَافِلَةَ، فلمَّا بلغ ذلك المسلمين فأقاموا على مُعان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتبُ لرسول الله صلعم فنخبره بعدد عدوِّنا، فإمَّا أن يمدَّنا بالرِّجال، وإمَّا أن يأمرنا بأمرٍ فنمضيَ له، فشجَّع النَّاسَ عبدُ الله بن رواحة، وقال: يا قومِ والله إنَّ الَّذي تكرهون للَّذي خرجتم تَطلبُون الشَّهادة، وما نُقاتلُ النَّاس بعددٍ ولا قوَّةٍ ولا كثرةٍ، ما نُقاتلهم إلَّا بهذا الدِّينِ الَّذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنَّما هي إحدى الحُسنيين، إمَّا ظهورٌ وإمَّا شهادةٌ، ثُمَّ التقى النَّاس فَقُتِل الثَّلاثة كما أخبر صلعم، زيدٌ ثُمَّ جعفرٌ ثُمَّ ابنُ رواحة، ثُمَّ أخذ الرَّاية خالد بن الوليد، فدافع القوم وحَاشى بهم، ثُمَّ حاز وانحيزَ عنه، حتَّى انصرفَ النَّاسُ، كما ذكره ابن إسحاق، وهو المختار، وحكى ابن سعدٍ وغيره أنَّ الهزيمة كانت على المسلمين، وحكى أيضًا أنَّ الهزيمة كانت على الرُّوم، كما سيأتي في البُخَاريِّ، ورُفِعتُ الأرض لرسول اللهِ صلعم فرأى مُعْتركَهُم فلمَّا أخذ خالدٌ اللِّواء قال: ((الآنَ حَمِيَ الوَطِيسُ)).
          وعدَّدَ ابن إسحاق مَنِ استُشِهد مِنَ المسلمين، ومنهم الأمراء الثَّلاثة كما سلف، ولمَّا قدِمُوا استقبلهم أهل المدينة يحثُون في وجوههم التُّراب، ويقولون: يا فرَّارون، فيقولُ صلعم: ((لَيسُوا بفَرَّارينَ ولكنَّهُم كرَّارينَ إنْ شاءَ اللهُ)).
          وقد ذكر الحاكم شِعرَ عبد اللهِ بن رواحة لمَّا ودَّع رَسُولَ الله صلعم، قال صلعم في حقِّ زيدٍ: ((دخلَ الجنَّةَ وَهْوَ يَسْعَى))، وقال في حقِّ جعفرٍ: ((فإنَّهُ شَهيدٌ دَخَلَ الجنَّةَ، وهو يَطيرُ فيها بِجَناحيه مِنْ يَاقوتٍ حيثُ شَاءَ مِنْ الجنَّةِ))، وذكر شعرَه لمَّا عُقِر فرسُه، وهو أوَّل مَنْ عَقَر فرسًا في الإسلام وقاتل، ثُمَّ ذكر شعرَ ابن رواحة وقتلَه، وأنَّهُ دَخَل معترضًا، وعند ابن هشامٍ أنَّ جعفرًا أخذ اللِّواء بيمينه فقُطِعت، فأخذَها بشماله فقُطِعت، فاحتضنَه بعضُديه حتَّى قُتِل، وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سنةً، وفي «الدَّلائل» للبَيْهَقيِّ: لمَّا أخذَ خالدٌ اللِّواءَ قال صلعم: ((اللهُم إنَّهُ سيفٌ مِنْ سُيوفكَ وأنتَ تَنْصُرهُ))، فمِنْ يومئذٍ سُمِّيَ خالدٌ سيفَ اللهِ، زاد ابن عائذٍ: ((ونِعْمَ عبد الله وأخو العشيرة)).
          وفي حديث العَطَّاف بن خالدٍ: لمَّا أصبح خالدٌ جعل مُقدِّمَتَه ساقَتَه، وساقَتَه مُقدِّمَتَه، وميمنَته مَيْسرَتَه، وميسرَتَه ميمنَتَه، فأنكرَ الرُّوم ذلكَ وقالوا: قد جاءهم مَدَدٌ، فرُعِبوا وانكشفوا مُنهزمين، فقُتِلوا مقتلةً لم يُقْتَلْهَا قومٌ، وفي حديث جابر بن عبد الله: وغنم المسلمون بعض أمتعة المشركين.
          إذا عرفت ذلك فقد ساق البُخَاريُّ في الباب أحاديث: