التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب غزوة ذات الرقاع

          ░31▒ (بَابُ: غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ
          وَهْيَ غَزْوَةُ مُحَارِبِ خَصَفَةَ مِن بَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطَفَانَ فَنَزَلَ نَخْلًا وَهِيَ بَعْدَ خَيْبَرَ، لأَنَّ أَبَا مُوسَى جَاءَ بَعْدَ خَيْبَرَ).
          اعلم أنَّ ابنَ إسحاق ذكر غزوة ذات الرِّقَاع بعد بني النَّضيْر، وغزوةُ بني النَّضيْر عنده في ربيعٍ الأوَّل على رأس خمسة أشهرٍ مِنْ وقعة أُحُدٍ، قال: ثُمَّ أقام بعد غزوة بني النَّضيْر شهر ربيعٍ، وقال الوقَّشِيُّ: الصَّواب: شهري ربيعٍ وبعض جُمادى، ثُمَّ غزا نجدًا يريد بني محاربٍ وبني ثعلبة مِنْ غَطَفان في سنة أربعٍ، ثُمَّ ذكر بعدها بدرًا الآخرة، ثُمَّ دُوْمة الجَنْدل، ثُمَّ الخندق، ثُمَّ بني قُريظة، وذكرها أبو مَعْشَرٍ بعد الخندق وقُريظة.
          و(مُحَارِبِ خَصَفَةَ) هو محارب بن خَصَفَةَ بن قيس عَيْلَان بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان، أخي عبسٍ وأَنْمارٍ ابنَي بغيضٍ، أخي أشجع ابني ريث بن غَطَفان بن سعد بن قيس عَيْلان بن مضر أخي ربيعة ابني نزارٍ.
          وقوله: (مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطَفَانَ) كذا في نسخة الأَصيليِّ عن أبي أحمد، وصوابه: وبني ثعلبة كما جاء بعد ذلك في حديث بكر بن سَوَادة، حدَّثَني زياد بن نافعٍ عن أبي موسى أنَّ جابرًا حدَّثهم: صلَّى النَّبِيُّ صلعم بهم يوم محاربٍ وثعلبة، وفي رواية القابسيِّ: <خَصَفَةُ بَنِي ثَعْلَبة>، قال الجَيَّانيُّ: وكِلاهما وَهْمٌ، والصَّواب: محارب خَصَفَةَ وبني ثعلبة، بواو العطف، وهم بنو ثعلبة بن سعد بن ذُبيان بن بُغَيض بن ريث بن غَطَفان.
          وقوله: (مُحَارِبِ خَصَفَةَ) أراد التَّمييز لأنَّ محاربَ في العرب جماعةٌ، وهذا ابنُ خَصَفَةَ، فأراد تمييزَه بأبيه مِنْ بين أولئك، وقال ابن سعدٍ: ذات الرِّقَاع كانت في المحرَّم على رأس سبعةٍ وأربعين شهرًا مِنْ مُهاجَرِهِ ليلة السَّبت لعشرٍ خلونَ منه في أربع مئةٍ، وقيل: في سبع مئةٍ مِنْ أصحابه، وعند البَيْهَقيِّ: أو ثمان مئةٍ، وحديث أبي موسى يدلُّ على أنَّها بعد خيبر لأنَّ قدومه كان بخيبر مع جعفر، فكيف حضر هذِهِ الغزوة وهي قبلها بمدَّةٍ؟! وخيبر سنة سبعٍ أو ستٍّ كما قال مالك، وهو حديثٌ مُشكِلٌ مع صحَّته، وما ذهبَ أحدٌ مِنْ أهل السِّير إلى أنَّها بعد خيبر كما نبَّه عليه الدِّمْياطيُّ، وقال البَيْهَقيُ: إنْ كان الواقديُّ حفظَ أنَّها سُمِّيت ذاتَ الرِّقَاع بجبلٍ فيه بقعٌ فيُشبه أن تكون الغزوة الَّتي شهدها أبو موسى وأبو هريرة وابن عمر غيرَ هذِه. قلتُ: قد قال أبو مَعْشرٍ: إنَّها كانت بعد الخندق وقُريظة، وقال ابن عقبة: لا ندري متى كانت غزوة ذات الرِّقَاع أقبل بدرٍ أم بعدها أم فيما بينها وبين أُحُدٍ أم بعد أُحدٍ؟
          فصلٌ: واستعملَ على المدينة أبا ذرٍّ الغِفاريَّ، ويقال: عثمان بن عفَّان فيما قال ابن هشامٍ، وهي غزوة ذات الرِّقَاع، وسُمِّيتْ بذلك لأنَّهم رقَّعوا فيها راياتهم، ويقال: ذات الرِّقَاع شجرة بذلك الموضع، وقيل: لأنَّ أقدامَهم نقبت فكانوا يلفُّون عليها الخِرَق، وسيأتي مِنْ حديث أبي موسى، وقال الدَّاوُديُّ: لترقيع الصَّلاة فيها، وقال ابن حبَّان في «سيرته»: لأنَّ الجبل كان فيه سوادٌ وبياضٌ، وقيل: بل الجبلُ الذي نزلوا عليه أو الأرض كانت أرضُه ذات ألوانٍ تُشبه الرِّقَاع، فلقي بها جمعًا مِنْ غَطَفان فتقارب النَّاس ولم يكن بينهم حربٌ، وقد خاف النَّاس بعضُهم بعضًا، حتَّى صلَّى ◙ صلاة الخوف كما سيأتي، ثُمَّ انصرف بهم، قال ابن سعدٍ: وكان ذلك أوَّل ما صلَّاها، وحكى ابن التِّينِ قولًا آخر: إنَّ أول ما صلَّاها في بني النَّضيْر، ثُمَّ ساق ابنُ إسحاق مِنْ حديث جابرٍ أنَّ رجلًا مِنْ بني محاربٍ يقال له: غَوْرَثٌ _أي بالغين المعجمة وبالمهملة أيضًا_ قال لقومه مِنْ غَطَفان ومحاربٍ: أَلَا أَقتلُ لَكُم مُحمَّدًا؟ فذكر أخذَ السَّيف وإضمامه ومنعه الله منه، فأنزل الله: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} الآية [المائدة:11].
          وقد رواه مِنْ حديث جابرٍ أيضًا أبو عَوانة، وفيه فسقط السَّيف مِنْ يده، فأخذه رَسُولُ الله صلعم، فقال: ((مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟))، فقال: كُن خيرَ آخذٍ، قال: ((تَشْهدُ أنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وأَنِّي رَسُولُ الله؟)) قال: لا، ولكنْ أُعاهدكَ أنِّي لا أُقَاتلكَ، ولا أكونُ مع قومٍ يُقَاتلونكَ، فَخَلَّى سبيله، ثُمَّ جاء قومه، فقال: جِئْتُكُم مِنْ عند خير النَّاس.
          وقد وقع في غزوة ذي أمرٍ مثل هذا لدُعْثُور بن الحارث مِنْ بني محاربٍ، وأنَّ جبريل دفع في صدره، فوقع السَّيف مِنْ يده، ثُمَّ أسلَمَ، ثُمَّ جاءَ قومَه يدعوهم إلى الإسلام، ونزلتِ الآية السَّالفة، والظَّاهرُ أنَّ الخَبَرينش واحدٌ، وقد قيل: إنَّ هذِه الآية نزلتْ في أمر بني النَّضير، فالله أعلم.
          وفي انصرافِه ◙ مِنْ هذِهِ الغزوة أبطأَ جملُ جابر بن عبد الله فنَخَسَهُ بيده الكريمة فانطلق فاشتراه، ثُمَّ ردَّه وثمنَه، وقال ابن سعدٍ: قالوا: قَدِم قادمُ المدينة بجلب له، فأخبر أصحابَ رَسُول الله صلعم أنَّ أَنْمار وثعلبة قد جمعوا له الجموع، فبلغ ذلك رَسُولَ الله صلعم فخرج إليهما كما سلف، فمضى حتَّى أتى محالَّهم بذات الرِّقَاع، فلم يجد في محالِّهم إلَّا نسوةً، وبعث رسول الله صلعم جُعَال بن سُراقة بشيرًا بسلامته وسلامة المسلمين، قال: وغاب خمس عشرة ليلةً.
          وفي «الأوسط» للطَّبَرانيِّ عن إبراهيم بن المُنْذِر: قال مُحمَّد بن طلحة: كانت غزوة ذات الرِّقَاع تُسمَّى غزوة الأعاجيب، وسيأتي آخرَ الباب عن أبي هريرة ☺ قال: صلَّيتُ مع رَسُولِ اللهِ صلعم في غزوة نجدٍ صلاةَ الخوف، / وقدومُه عام خيبرَ، وقال ابن عمرَ: غزوتُ مع رَسُول الله صلعم قِبلَ نجدٍ، فذكر صلاةَ الخوف وإجازتَه عامَ الخندق، وقد سلف ما فيه في باب: صلاة الخوف [خ¦942].
          4125- ثُمَّ ذكر البُخَاريُّ عن عبد الله بن رجاءٍ فقال: (وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ: أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ القَطَّانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم صَلَّى بِأَصْحَابِهِ في الخَوْفِ فِي الغَزْوَةِ السَّابعةِ، غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ).
          وأخرجه مسلمٌ أيضًا، ثُمَّ قال: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ عَنِ النَّبِيِّ صلعم، يعني: صلاة الخوف بِذِي قَرَدٍ، وسلف في الصَّلاة [خ¦944].
          4126- (وَقَالَ بَكْرُ بْنُ سَوَادَةَ: حَدَّثَني زِيَادُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ جَابِرًا حَدَّثَهُمْ: صَلَّى النَّبِيُّ صلعم يَوْمَ مُحَارِبٍ وَثَعْلَبَةَ...) الحديث.
          وأَبُو مُوسَى هذا ذكرَ أبو مسعودٍ الدِّمشقيُّ أنَّهُ عليُّ بن رَبَاحٍ اللَّخْميُّ، وقيل: إنَّهُ أبو موسى الغافقيُّ، واسمُه: مالك بن عُبَادة وله صحبة، والقولُ الأوَّل أولى كما قاله المِزِّيُّ.
          4127- ثُمَّ قال: (وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ سَمِعْتُ جَابِرًا: خَرَجَ النَّبِيُّ صلعم إِلَى ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ، فَلَقِي جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ، فَلَمْ يَكُنْ قَتِالٌ، وَأَخَافَ النَّاسُ بَعْضُهُم بَعْضًا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلعم رَكْعَتَيِ الخَوْفِ).
          وهذا أخرجه ابن إسحاق كذلك، ثُمَّ قال: (وَقَالَ يَزِيدُ: عَنْ سَلَمَةَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلعم يَوْمَ القَرَدِ).
          قلت: هذا أسنده في باب: غزوة ذي قَرَدٍ [خ¦4194] عن قتيبة عن حاتمٍ عن يزيد، هو ابن أبي عُبيدٍ، كما ستعلمه.
          قال البَيْهَقيُّ: وذكر ابن إسحاق بعد غزوة ذات الرِّقَاع غزوةَ ذي قَرَدٍ، والَّذي لا شكَّ فيه أنَّها كانت بعد الحديبية، كما يأتي مِنْ عند البُخَاريِّ بعدُ، وحديثُ سَلَمة ينطق بذلك، قلت: وقَرَدٌ ماءٌ في شِعْبٍ، وهي غزوة الغابة في ربيعٍ الأوَّل سنة ستٍّ بعد غزوة بني لِحْيان ناحية عُسْفَان بليالٍ.