التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم}

          ░54▒ (بَابُ: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ...} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}) [التوبة:25-27].
          (حُنَين) وادٍ بينه وبين مكَّة ثلاث ليالٍ، وهو حُنَين بن قَاينة بن مهلائيل نُسِب إليه الموضع، وهي غزوة هوازنَ كما سلف في الجهاد في باب: مَنْ قاد دابَّة غيره في الحرب [خ¦2864]، وادَّعى السُّهيليُّ أنَّها تُعرف أيضًا بأَوْطَاسٍ، فسُمِّيتْ باسم الموضع الَّذي كانت فيه الوقعة أخيرًا، وكانت يوم السَّبت لستِّ ليالٍ مِنْ شوَّالٍ سنة ثمانٍ مِنَ الهجرة، وكانت سِيمَاْ الملائكة فيها عَمائمُ حُمْرٌ، قد أَرْخوها بين أكتافهم.
          وقال ابنُ سعدٍ: وفي موضعٍ آخر عن الحَكَم: خرج إليها ◙ لليلتين بقيتا مِنْ رمضان، أي تهيَّأ قالوا: في اثني عشر ألفًا؛ عشرة آلافٍ مِنْ أهل المدينة، وألفان مِنْ أهل مكَّة، فقال الصِّدِّيق: لا نُغْلب اليوم مِنْ قلَّةٍ، فانتهى إلى حُنينٍ مساءَ ليلةِ الثُّلاثاء لعشرٍ خلون مِنْ شوَّالٍ، فلمَّا انهزمت بنو سُليمٍ وأهل مكَّة جعل رَسُولُ الله صلعم يقول: ((يَا أَنْصارَ اللهِ وأنصارَ رَسولِه، أَنَا عبدُ اللهِ ورَسُولهُ))، فثابَ إليه مَنِ انهزم، وثبت معه يومئذٍ العبَّاس وعليٌّ والفضل وأبو سفيان بن الحارث وربيعة بن الحارث وأبو بكرٍ وعمر وأسامة في أناسٍ مِنْ أهل بيتِه وأصحابِه، قال الحارث بن النُّعمان: مئة رجلٍ، وسيأتي تعداد بعضهم، ورماهُم بحصيَّاتٍ فقذفَ الله في قلوبهم الرُّعب وانهزموا لا يلوي أَحدٌ على أَحدٍ، وسبى منهم ستَّة آلاف رأسٍ، وكانت الإبلُ أربعةً وعشرين ألف بعيرٍ، والغنمُ أكثرَ مِنْ أربعين ألفَ شاةٍ وأربعةَ آلاف أُوقيَّةِ فِضَّة، ثُمَّ ردَّ عليهم سبيهم لمَّا أتاه وفدهم بإسلامهم، ثُمَّ انتهى إلى الجِعِرَّانة ليلة الخميس لخمس ليالٍ خلونَ مِنْ ذي القَعدة، فأقام بها ثلاثَ عشرةَ ليلةً، فلمَّا أراد الانصرافَ إلى المدينة خرج ليلةَ الأربعاء لثِنتَي عشرة بقيت منها ليلًا، فأحرمَ بعُمْرةٍ، ثُمَّ رجع مِنْ ليلته كبائتٍ، ثُمَّ غدا يوم الخميس فانصرف إلى المدينة، وفي لفظٍ: لم يكن معه يومئذٍ إلَّا أبو سفيان بن الحارث.
          وفي حديث يَعلى بن عطاءٍ أنَّهُ ◙ اقتحمَ يومئذٍ عن فرسه، فأخذ كفًّا مِنْ تُرابٍ وضرب بهم وجوههم، فلم يبقَ منهم أحدٌ إلَّا امتلأت عيناه وفوهُ ترابًا، وعند ابنِ هشامٍ وغيره فيمَنْ ثبتَ معه يوم حُنينٍ قُثَم بن عبَّاسٍ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّهُ صلعم تُوفِّي وهو صغيرٌ، وعند الزُّبَير بن أبي بكرٍ: وكان عُتْبة ومُغِيث ابنا أبي لهبٍ ممَّن ثبت يومئذٍ، ولابن إسحاق: وأيمن ابن أمِّ أيمن، ولابن عبد البرِّ: وجعفر بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطَّلب، وأمُّ سُلَيمٍ، ولعبد الغنيِّ: وعبد الله بن الزُّبَير بن عبد المطَّلب، ولابن الأثير: وعَقيل بن أبي طالبٍ، ولابن عبَّاسٍ في «تفسيره»: وأبو دُجانة، ونفرٌ مِنَ الأنصار تعلَّقُوا بثَغرِ النَّخْلة، وللبَيْهَقيِّ عن ابن مسعودٍ: بقيتُ أنا معه في ثمانين رجلًا مِنَ الأنصار والمهاجرين، وناوله كفًّا مِنْ ترابٍ فضرب به وجوههم، فامتلأتْ أعينهم ترابًا، وقال العبَّاس:
نَصْرَنا رَسُولَ اللهِ فِي الحَرْبِ تِسْعَةً                     وقد فرَّ مَنْ قَدْ فرَّ مِنْهُم وأَقْشَعُوا
وعَاشِرُنَا لَاقَى الحِمَام بِنَفْسِهِ                     لِمَا مَسَّه في اللهِ لا يَتَوْجَّعُ
          يريد بالميِّت أيمنَ بنَ أمِّ أيمن، ولأبي مَعشرٍ: ثبت معه يومئذٍ مئة رجلٍ بِضعةٌ وثلاثون مِنَ المهاجرين وسائرهم مِنَ الأنصار، وسلَّ رَسُولُ الله صلعم سيفَه، ثُمَّ طرح غِمْدَه وقال:
((أنا النَّبِيُّ لا كَذِبْ                     أَنَا ابِنُ عَبْدِ المطَّلِبْ))
          وقال لأبي سفيان بن الحارث: ((نَاِوْلِني تُرَابًا)) فناولَه... الحديث، وكان صلعم على بغلته البيضاء الَّتي أهداها له فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ، وقال ابنُ هشامٍ: قال ◙ حينئذٍ لبغلته، أي الشَّهْباء _كما ذكره أبو نُعَيْمٍ في «دلائله» _ البَدَي فوضعت بطنها على الأرض فأخذ حَفْنَة فضربَ بها وجوه هَوازن، وعند ابن سعدٍ أنَّ هذِهِ البغلة هي دُلْدُل، وتبعَه أبو عمر وابن حزمٍ وغيرهما، وفي مسلمٍ: بَغْلَتُهُ الشَّهْبَاء، يعني دُلْدُل الَّتي أهداها المُقوقِس، ويجوز أن يكون ركبهما يومئذٍ معًا.