التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب عمرة القضاء

          ░43▒ (بَابُ: عُمْرَةِ القَضَاءِ
          ذَكَرَهُ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صلعم).
          يقال لهذه العُمْرة: عُمْرة القضيَّة، وعُمرة القضاء، كما سيأتي.
          فكان مِنْ خبرها أنَّهُ صلعم خرج في ذي القَعدة مِنَ السَّنة السَّابعة قاصدًا مكَّة للعُمرة على ما عاقد عليه قريشًا في الحديبية، فلمَّا اتَّصل ذلك بقريشٍ خرج أكابر منهم عن مكَّة عداوةً للهِ ولرسوله، ولم يَقْدِروا على الصَّبر في رؤيته يطوف بالبيت هو وأصحابه، فدخل صلعم مكَّة وأتمَّ الله له عُمرتَه، وقعد بعض المشركين بقُعَيْقِعان ينظرون إلى المسلمين وهُمْ يطوفون بالبيت، فأمرهم صلعم بالرَّمَل ليُرُوا المشركينَ جَلَدَهم لمَّا قالوا: وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ.
          وتزوَّجَ صلعم في هذِهِ العُمْرة ميمونةَ بنت الحارث الهلاليَّة، قيل: تزوَّج بها قبل الإحرام، وقيل: بعد أن حلَّ منها، وقيل: في حال إحرامِه، فلمَّا تمَّت الأيام الثَّلاثة الَّتي هي أَمَدُ الصُّلح جاء حُوَيْطب بن عبد العزَّى ومعه سهيل بن عمرٍو إلى رَسُولِ الله صلعم عن المشركين بأن يخرجَ عن مكَّة، ولم يمهِلوهُ أن يبني على ميمونة ويُصنع لهم طعامٌ، فقال حُوَيْطب: اخرجْ عنَّا، فلا حاجةَ لنا بطعامكَ، فقال له سعدٌ: يا عاضَّ بَظْر أمِّه، أرضُكَ وأرضُ أمِّك دونه، فأسكتهُ رَسُولُ الله صلعم، فخرج وبنى بها بِسَرِف، وماتت به سنة ثلاثٍ وستِّين، وقيل: سنة ستٍّ وستِّين، وصلى عليها ابنُ عبَّاسٍ وابن الأصمِّ، وكلاهما ابن أختٍ لها، وفيها نزلت: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50] في أحد الأقوال وذَلِكَ أنَّ الخاطب جاءها وهي على بعيرها، فقالت: البعيرُ وما عليه لرسول الله صلعم.
          وذكر ابنُ سعدٍ: أنَّ المُعتمرَ بها كانوا ألفين هم أهل الحديبية ومَنِ انضافَ إليهم، إلَّا مَنْ مات منهم أو استُشِهد بخيبر، واستخلف على المدينة أبا رُهْمٍ الغِفاريَّ، وقيل: غيره، وساق ستِّين بدَنةً، وجعل عليها نَاجِية بن جُندبٍ، ومئةَ فرسٍ قدَّم عليها مُحمَّد بن مَسْلَمة أمامَه، وجعل على السِّلاح أَوْسَ بْن خَوْلِيٍّ في مئتي رجل ببطن يَأْجَج، ثُمَّ خَلَفَهم غيرهم حتَّى قضى الكلُّ مناسك عمرتهم.
          وقول البُخَاريِّ: (ذَكَرَهُ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صلعم) هذا أسنده البَيْهَقيُّ في «دلائله» مِنْ حديث معمرٍ عن الزُّهْريِّ عنه قال: لمَّا دخل رَسُولُ الله صلعم مكَّة في عمرة القضاء، مشى عبدُ الله بن رواحة بين يديه وهو يقول:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ                     قد نزَّلَ الرَّحمنُ في تنزيلهِ
بأنَّ خَيْرَ القَتْلِ في سَبِيلِهِ                     نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ
          كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
          وأسندَه ابن حِبَّان في «صحيحه» مِنْ حديث ثابتٍ عنه بزيادة:
ويَذْهَلُ الخَلِيلُ عن خَلِيلهِ                     يا ربِّ إنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلهِ
          فقال له عمر: يا ابنَ رواحة، أتقول الشِّعر بين يدي رَسُولِ الله صلعم؟! فقال صلعم: ((دَعْهُ يَا عُمَرُ، لَهَذَا أَشَدُّ عَلِيهِمْ مِنْ وَقْع النَّبْلِ))، وأوَّلُهُ في «إكليل الحاكم»:
بِاسْمِ الَّذي لَا دِينَ إلَّا دِينُهُ                     بِاسْمِ الَّذِي مُحمَّدٌ رَسُولُهُ
أَنَا الشَّهيدُ أَنَّهُ رَسُولُهُ                     قد أنزلَ الرَّحمنُ في تَنْزيلِهِ
          فِي صُحُفٍ تُتلَى عَلَى رَسُولِهِ
          زاد النَّيْسَابُوريُّ في «شرفه»:
          أَعْرفُ حَقَّ اللهِ في قبولِه.
          وزعم ابن هشامٍ في «سيره» أنَّ قوله:
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ                     كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
          لعمَّار بن ياسرٍ قالها يوم صفِّين، يريد الَّذي فيه عمَّارٌ مع عليٍّ وهو ظاهرٌ لأنَّ / المشركين لم يقاتلوا على التَّأويل، وذكرَه ابنُ عقبة مِنْ طريق الزُّهْريِّ بعد خلوا:
          أَنَا الشَّهِيدُ أنَّهُ رَسُولُهُ.
          وقال مجاهدٌ فيما ذكره عبدُ بن حُميدٍ: لمَّا صدَّهُ قريشٌ عامَ الحديبية وفَخِروا بذلك ما قصَّه الله، فدخل عليهم مِنْ قَابِل، وأنزل الله تعالى في ذلك: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:194]، وقال الحاكم في «إكليله»: قد تواترتِ الأخبار عن أئمَّة المغازي أنَّهُ لمَّا دخل هلالُ ذي القَعدة مِنْ سنة سبعٍ أمرَ صلعم أصحابَه أن يَعْتمروا عُمرتَهم ولا يتخلَّف منهم أحدٌ ممَّن شهد الحديبية، وخرج معه قومٌ مِنَ المسلمين سوى أهل الحديبية ممَّن لم يشهد صلح الحديبية عُمَّارًا، فكان المسلمون فيها ألفين سوى النِّساء والصِّبيان، وتُسمَّى هذِهِ العُمْرة بعمرة الصُّلح وعمرة القَضَاء، كما سلف، والقضاء: الفَصْل، قلت: وأحرم مِنْ باب المسجد بذي الحُلَيفة ولبَّى، والمسلمون معه يلبُّون.
          وقال السُّهيليُّ: سُمِّيت عُمْرَة القضاء لأنَّه صلعم قاضى قريشًا عليها، لا لأنَّهُ قضى العُمْرة الَّتي صُدَّ عنها فيها، فإنَّها لم تكن فسدت بصدِّهم عن البيت، بل كانت عُمْرةً تامَّةً متقبَّلةً، حتَّى إنَّهم حين حَلَقوا شعورهم بالحِلِّ احتملَتْها الرِّيح، فألقتها في الحرم، فهي معدودةٌ في عُمَرِ النَّبِيِّ صلعم، قال ابن الأثير: وذِكْرُ البُخَاريُّ لها في الغزوات وليست منها لأنَّها تضمَّنت ذكرَ المصالحة مع المشركين بالحديبية.