التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب غزوة بني المصطلق من خزاعة

          ░32▒ (بَابُ: غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ، وهْيَ غَزْوَةُ المُرَيْسِيعِ
          قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ، وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِد عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَ حَدِيثُ الإِفْكِ فِي غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ).
          الشَّرح: (المُصْطَلِقُ) اسمُه: جَذِيمة بن سعد بن كعب بن عمرو بن لُحَيٍّ، وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو مُزَيْقِياء، ووقع في «سِيرة ابن حِبَّان» أنَّ المُصْطَلِقَ اسمه سعد بن عمرٍو، والمعروف ما ذكرناه، وخالف ابنُ سعدٍ فقال: هي في شعبان سنةَ خمسٍ يوم الاثنين لليلتين خلتا منه، والخندق بعدها عنده، في ذي القَعدة مِنَ السَّنة، وكذا ذكره الواقديُّ، قال الحاكم في «إكليله»: وهو أشبه مِنْ قول ابن إسحاق، وذكرها أبو مَعْشرٍ أيضًا قبل الخندق، ونزلتْ فيها آية التَّيمُّم، وما ذكره البُخَاريُّ عن موسى بن عقبة قد ذكر البَيْهَقيُّ في «دلائله» بإسناده عن موسى بن عقبة عن ابن شهابٍ، أنَّها كانت في شعبان سنة خمسٍ، قال: ورُوِّيناه عن قتادة أيضًا والواقديِّ، وقد خرَّج البُخَاريُّ أنَّ ابنَ عمر غزاها مع رَسُول الله صلعم، وما ذكره عن النُّعمان، عن الزُّهْريِّ أسندَه البَيْهَقيُّ، عن النُّعمان ومَعمر أيضًا، عنه عن عُروة عن عائشة، قال البَيْهَقيُّ: وإليه ذهب أهلُ المغازي مُحمَّد بن يسارٍ ومُحمَّد بن عمر الواقديُّ.
          واعلم أنَّ ابنَ إسحاق ذكر بعد ذات الرِّقَاع غزوة بدرٍ الأخرة، ثُمَّ دُوْمة الجَندل كما أسلفناه، سمُيِّت بدُوْمة بن إسماعيل لأنَّهُ نزلها، ثُمَّ الخندق وبعدها غزوة بني قُريظة، وذكر ابنُ سعدٍ بعدها سريَّة مُحمَّد بن مَسْلمة إلى القُرَطاء، ثُمَّ سريَّة عبد الله بن عَتِيكٍ لقتل أبي رافع بن أبي الحُقَيق.
          وذكر ابنُ إسحاق إسلامَ عمرو بن العاصي وخالد بن الوليد، ثُمَّ ذكر غزوة ذي قرد _بفتح القاف والرَّاء وحكى السُّهيليُّ عن أبي عليٍّ ضمَّهُما_ ويقال لها: غزوة الغابة، وسريَّة سعيد بن زيدٍ إلى العُرَنِيِّينَ في شوَّالٍ سنة ستٍّ عند ابن سعدٍ.
          فصلٌ: قَتَل النَّبِيُّ صلعم مِنْ بني المصطلق وسبى جُوَيرية بنت الحارث، فأعتقَها وتزوَّجها، وكانت الأَسرى أكثر مِنْ سبع مئةٍ، فطلبَتْهُم منه ليلة دخل بها فوهبهم لها.
          فائدةٌ: (المُصْطَلِقِ) مُفْتَعِلٌ مِنَ الصَّلَق: وهو رفع الصَّوت، و(المُرَيْسِيعِ) ماءٌ لخزاعة بينه وبين الفُرع نحو يومٍ، وبين الفُرع والمدينة ثمانية بُرَدٍ، وهو مِنْ قولهم: رَسِعت عين الرَّجل، إذا دمعت مِنْ فسادٍ، وهو فساد الأجفان، وقد رَسِع الرَّجل فهو أَرْسَع، وفيه لغةٌ أخرى: رسَّع ترسيعًا فهو مُرسِّعٌ ومُرسِّعةٌ، وقد رسَعَتْ عينُه أيضًا ترسيعًا.
          ثُمَّ ذكر البُخَاريُّ حديثَ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، وحديثَ جابرٍ.
          4138- أمَّا حديث أَبُي سَعِيدٍ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ العَرَبِ...) فذكر حديث العزل، وفيه: (فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إلاَّ وَهْيَ كَائِنَةٌ).
          حقيقة العزل: أن يُجَامع فإذا قارب الإنزال نزعَ على قصدِ الإنزال خارجَه، وعندنا أنَّ الأَوْلى تركُه، وهو جائزٌ في الحُرَّة والأَمَة بالإذن وعدمِه، وقطعَ الرَّافعيُّ في الأَمَة بالجواز، وقال: لا خِلاف فيه، وصاحبُ «البحر» حكى الخلاف فيه رعايةً لحقِّ الولد، وحاصل الخلاف في الحُرَّة ثلاثة أوجهٍ: ثالثها: يجوز بالإذن، وهو قول مالكٍ، واعتبرَ إذنَ مَوالي المرأة ولم يعتبره في التَّسرِّي.
          واخُتلف هل كانوا أهل كتابٍ، فقال الأَصيليُّ: كانوا عبدةَ أوثانٍ، وإنَّما أباح ◙ وطأهُنَّ قبل نزول: ‍{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، وقال الدَّاوُديُّ: كانوا أهلَ كتابٍ ولذلك / لا يُحتاج إلى إسلامِهنَّ قبلَ الوطء، والأوَّل أولى لقوله: (فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ العَرَبِ).
          وهذا الحديث في قوله: (مَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا) استدلَّ به على الإباحة والمنع، وأنَّهُ إلى النَّهي أقرب، وقال المُبرِّد: معناه: لا بأس عليكم أنْ تفعلوا، ومعنى (لَا) الثَّانية طرحُها، وحجَّة مَنْ مَنع حديثُ مسلمٍ أنَّهُ ◙ سُئِل عنه، فقال: ((إنَّهُ الوَأْدُ الخَفِيُّ)).
          وقوله: (مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ) أي قد جفَّ القلمُ بكلِّ ما يكون، فيُؤخذ منه أنَّ الولدَ يكون مع العزل، ولهذا لو قال: وطئتُ وعزلتُ، حَرُم عليه النَّفي. قال شَمِرٌ: النَّسَمة كلُّ دابَّةٍ فيها روحٌ، والنَّسَم الرُّوح، والتَّقدير: ما مِنْ ذي نَسَمةٍ، ويُراد بها الذَّكر والأنثى، وقال القزَّاز: كلُّ إنسانٍ نَسَمةٌ، ونفسه نَسَمةٌ.
          4139- وأمَّا حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ☻: (غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم غَزْوَةَ نَجْدٍ....).
          قد سلف في الغزوة قبلها.
          وقوله فيه: (فَشَامَهُ) أي رُدَّ في الغِمْد، وهو مِنَ الأضداد، يقال: شَامهُ إذا سلَّه، وشَامَهُ إذا ردَّهُ في غمده، وإنَّما لم يعاقبه لأنَّهُ كان يستميلهم بذلك ليرغِّبَهُم في الدُّخول في الإسلام، و(العِضَاهِ) سلف في الغزوة قبلها، وحكى أبو حنيفة خلافًا فيه: هل هي ذات الشَّوك، أو العِظَام مِنَ الشَّجر أجمع؟ وقال الفرَّاء: النَّحويُّون على الأوَّل، ورأينا العرب على الثَّاني، وقال أبو الهيثم: الزَّيتون والنَّخل مِنَ العِضاه، وقيَّدها بعضهم بالشَّجرة الطَّويلة، وفي «المحكم»: ويُجمَع أيضًا: عِضُون.