التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب غزوة أحد

          ░17▒ (بَابُ: غَزْوَةِ أُحُدٍ
          وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}) إلى قوله: ({سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121]، وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}) إلى قوله: ({فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:139-143]، وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}) الآيتين [آل عمران:152-153]، (وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]).
          الشَّرح: كانتْ غزوة أُحُدٍ في شوَّالٍ سنةَ ثلاثٍ يومَ السَّبت لإحدى عشرة ليلةً خلت منه عندَ ابنِ عائذٍ، وعند ابن سعدٍ: لسبع ليالٍ خلون منه على رأس اثنين وثلاثين شهرًا مِنْ مُهاجَرِه، وقال ابن إسحاق: للنِّصف منه، وعند البَيْهَقيِّ عن مالكٍ: كانت بدرٌ لسنةٍ ونصفٍ مِنَ الهجرة وأُحدٌ بعدها بسنةٍ، وفي روايةٍ: كانت على أَحدٍ وثلاثين شهرًا.
          وأُحُدٌ جبلٌ مِنْ جبال المدينة على أقلَّ مِنْ فرسخٍ منها، سُمِّي أُحُدًا لتوحُّده وانقطاعهِ عن جبالٍ أُخَر هناك، وكان ◙ يحبُّ الاسم الحسن، ولا أحسنَ مِنِ اسمٍ مشتقٍّ مِنَ الأَحَديَّة.
          قال السُّهيليُّ: وفيه قبر هارون بن عِمران وبه قُبِض، وكان هو وأخوه موسى مرَّا به حاجَّين أو مُعْتَمرين، ويقال له: ذو عَينين، وعينان: تثنية عينٍ، جبلٌ بأُحُدٍ وهو الَّذي قام عليه إبليسُ يومَ أُحُدٍ، وقال: إنَّ سيِّدنا رَسُول الله صلعم قد قُتِل، وبه أقام رَسُول الله صلعم الرُّماة يومَ أُحُدٍ، وقد يخفَّفُ فيقالُ: أُحْدٌ، وقد عَقَد بابًا في آخر هذِه الغزوة في أنَّهُ جبلٌ يحبُّنا ونحبُّهُ، وقد سلفَ أيضًا، والظَّاهر حملُه على ظاهره وأنَّ الله يخلقُ فيه ذلك كما خلق في الجبال المُسبِّحة مع داود، ويُحتملُ أن يُتَأوَّلَ أنَّ المرادَ أهلُه، أو المرادُ أنَّهُ كان يُبشِّره إذا أتاه بالقُرْب مِنْ أهله ولقائهم.
          وفي الآثار المسندة أنَّهُ يوم القيامة عندَ باب الجنَّة مِنْ داخلها، في بعضها أنَّهُ ركنٌ لبابِها، ذكرَه ابنُ سلَّامٍ في «تفسيره»، وفي «المسند» مِنْ حديث أبي عَبس بن جبرٍ مرفوعًا أنَّهُ على بابِ الجنَّةِ، قال ابن إسحاق: كما حدَّثَني الزُّهْريُّ وغيرُ واحدٍ عدَّدَهم: لمَّا أُصِيب يومَ بدرٍ مِنْ كفَّار قريشٍ أصحابُ القَليب، ورجع فَلُّهُم إلى مكَّة، ورجع أبو سفيان بن حربٍ بعِيرِهِ، مشى عبدُ الله بن أبي ربيعة / وعِكرمة بن أبي جهلٍ وصفوانُ بن أُميَّةَ في رجالٍ مِنْ قريشٍ ممَّن أُصِيبَ آباؤهم وإخوانُهم وأبناؤهم يومَ بدرٍ، فكلَّموا أبا سفيان بن حربٍ ومَنْ كانت له في تلك العير مِنْ قريشٍ تجارةٌ، فقالوا: أيا معشرَ قريشٍ، إنَّ مُحمَّدًا قد وَتَركم وقَتَل خِياركم، فأعينونا بهذا المال على حربِهِ لعلَّنا نُدركُ منه ثأرًا بمَنْ أصابَ منَّا، ففعلوا.
          وقال ابن سعدٍ: لمَّا رجع مَنْ حضر بدرًا مِنَ المشركين إلى مكَّة وجدوا العِير التي قَدِم بها أبو سفيان موقوفةً في دار النَّدوة، فمشتْ أشرافُ قريشٍ إلى أبي سفيان، فقالوا: نحن طيِّبو أنفسٍ أنْ تجهِّزوا بربحِ هذِهِ العير جيشًا إلى مُحمَّدٍ، فقال أبو سفيان: أنا أوَّلُ مَنْ أجاب إلى ذلك وبنو عبد منافٍ معي، فباعوها فصارتْ ذهبًا فكانت ألفَ بعيرٍ والمال خمسين ألف دينارٍ، فسلَّمَ إلى أهل العير رؤوسَ أموالهم وأخرجوا أرباحَهم، وكانوا يربحون في تجاراتهم بكلِّ دينارٍ دينارًا.
          قال ابن إسحاق: وفيهم كما ذكر لي بعضُ أهل العلم أنزلَ الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} الآية [الأنفال:36]، فاجتمعتْ قريشٌ لحربِ رَسُولِ الله صلعم، فعل ذلك أبو سفيان وأصحابُ العِير بأحابيشِها ومَنْ أطاعَها مِنْ قبائل كِنانة وأهل تِهامة، وبعثوا رسلهم يسيرون في العرب إلى نصرتهم فأوعبوا فكانوا ثلاثة آلافٍ فيهم سبع مئة دارعٍ ومئتا فرسٍ وثلاثة آلاف بعيرٍ، وأجمعوا على إخراج الظُّعُن معهم ليذكِّرنَّهم قتلى بدرٍ فيكون أَحَدَّ لهم، وكُنَّ خمس عشرة امرأةً.
          قال ابن سعدٍ: وكتب العبَّاسُ به إلى رَسُول الله صلعم بخبرِهم كلِّه، فأخبرَ رسولُ الله صلعم سعدَ بن الرَّبيع بكتاب العبَّاس.
          قال ابن إسحاق: وكان أبو عزَّة عمرو بن عبد الله الجُمَحيُّ قد منَّ عليه رَسُولُ الله صلعم يومَ بدرٍ، وكان فقيرًا ذا عِيالٍ وحاجةٍ، وكان في الأُسارى، فقال: يا رَسُول الله، إنِّي فقيرٌ وذو عيالٍ وحاجةٍ قد عرفتها فامنُنْ عليَّ صلى الله عليك، فمنَّ عليه ثُمَّ خرج عليه فأمرَ بقتله، واستشار ◙ الصَّحابةَ في الخروج فكان رأيُ كبارِهم عدمه وخالف فيه شبابهم، فخرج في ألفٍ بعد صلاة الجمعة، فلمَّا كان بمكانٍ يُقالُ له الشَّوط انخزل ابن أُبيٍّ بثلاث مئةٍ، ويقال: بل أمرهم ◙ بالانصراف لكُفرهم.
          وقال موسى بن عقبة: فلمَّا رجع عبدُ الله سُقِطَ في أيدي الطَّائفتين مِنَ المسلمين وهمَّا أن يقتتلا، وهما: بنو حارثة وبنو سَلِمة، وقال ◙ للرُّماة: ((لَا تتغيَّروا مِنْ مَكَانِكُم)) فلمَّا تغيَّروا هُزِموا وقُتلَ مِنَ المسلمين سبعون منهم حمزة بحربةِ وحشيٍّ، ويقال: خمسةٌ وستُّون، منهم أربعةٌ مهاجرون، وأُصِيب ◙ وشُجَّ جبينُه، وكَسَرَ رَباعِيَتُهُ اليمنى السُّفلى يَومئذٍ عُتبةُ بن أبي وقَّاصٍ، وجَرَحَ شفتَه السُّفلى عبدُ الله بن قَمِئة، وقال: خُذها وأنا ابنُ قَمِئة، فقال له: ((أَقْمَأَكَ اللهُ في النَّارِ))، فكان في غنمِه على ذُروة جبلٍ، فنطحَه تيسٌ فأرداهُ مِنْ شاهقةِ الجبل فتقطَّع، وضربَه بالسَّيف على شِقِّهِ الأيمن فجَرحَ وجنتهُ، ودخلت فيه حَلَقتان مِنَ المِغْفر، ووقع في حُفرةٍ مِنَ الحُفر الَّتي كِيْدَ بها المسلمون، عَمِلَها أبو عامرٍ الرَّاهب، فأخذه عليٌّ بيده، ورفعه طلحةُ حتَّى استوى قائمًا، واتَّقاه طلحة بن عُبيد الله، وفيه نزلتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية [آل عمران:128] كما يأتي.
          وذكر ابنُ هشامٍ أنَّ عبدَ الله بن شهابٍ الزُّهْريَّ _جدُّ مُحمَّد بن مسلمٍ الزُّهْريِّ_ شَجَّ رَسُول الله صلعم في جبهتهِ، وهو غريبٌ، وصرخ ابنُ قَمِئة: إنَّ مُحمَّدًا قُتِل، ويُقالُ: بل أَزَبُّ العَقَبةِ، ويقال: بلْ إبليس تصوَّر في صورةِ جُعَالٍ، ولم يثبتْ معه يومئذٍ إلَّا أربعة عشر رجلًا، وفي مسلمٍ: أفرد يومئذٍ في سبعةٍ مِنَ الأنصار، ورجلَين مِنْ قريشٍ: طلحة وسعد بن أبي وقَّاصٍ، وسيأتي في البُخَاريِّ [خ¦3722]: لم يبقَ معه في تلك الأيَّام الَّتي يقاتل فيهنَّ غيرُ طلحةَ وسعدٍ، ومَنامُه الثَّابت مِنْ حديث أبي موسى كما سيأتي في باب: مَنْ قُتِل بأُحُد [خ¦4081] أنَّهُ قال: ((هَزَزْتُ سَيفًا فَانْقَطَعَ صَدرُهُ، فإِذَا هوَ مَا أُصِيبَ مِنَ المؤمنينَ يَومَ أُحُدٍ، ثُمَّ هززتُه أُخرَى فعَادَ أَحسنَ ما كانَ، فإذا هو مَا جَاءَ اللهُ بهِ مِنَ الفتحِ، ورأيتُ فيها أيضًا بَقَرًا واللهُ خَيرٌ، فإذا هُمْ ما أُصِيبَ مِنَ المؤمنين يومَ أُحُدٍ، وإذا الخيرُ ما جاءَ اللهُ به مِنَ الخير بعدُ، وثوابُ الصِّدقِ الَّذي آتانا اللهُ به بعدَ يومِ بدرٍ))، وفي غيره: ((وَرَأيتُ في ذُبَاب سَيفي ثُلْمًا، أدخلتُ يدي في دِرعٍ حَصينةٍ فأوَّلتُها المدينة))، وعن ابن هشامٍ: ((فأمَّا البقرُ فناسٌ مِنْ أَصْحَابي يُقْتَلون، وأمَّا الثَّلْمُ الَّذي رأيتُ في سَيْفي فهو رَجلٌ مِنْ أهلِ بيتي يُقتلُ)). قال ابنُ عقبة: ويقول رِجالٌ: الَّذي رأى بسيفِه الذي أصابَ وجهَه، فإنَّ العدوَّ أصابوا وجهَه يومئذٍ، وفَصَمُوا رَباعيَّته، وجرحوا شفته. وعن ابن عائذٍ أنَّ الرُّؤيا كانتْ ليلةَ الجمعة، وروى الواقِديُّ أنَّهُ أراد ألَّا يخرجَ مِنَ المدينة لرؤيا رآها، وفيها: ((إِنَّ سَيْفي ذا الفَقَار انقصمَ مِنْ عندِ ظُبَّته، وأوَّلتُهُ مَقتلَ رَجُلٍ مِنْ بيتي، وكأنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا، وهو كبشُ الكَتيبةِ نقتلُه إنْ شاءَ اللهُ)).
          وكان لواءُ المشركين يومئذٍ بيد طلحة، وهو ابن عثمان أخو شَيْبة، مِنْ بني عبد الدَّار كما بيَّنهُ ابنُ عائذٍ فقُتِل، وكان لواءُ المسلمين بيد عليِّ بن أبي طالبٍ ☺، أيْ لواءُ المهاجرين، وقيل: بيد مصعب بن عميرٍ، وكان لواء الأوس بيد أُسَيد بن حُضَيرٍ، ولواء الخزرج بيد الحُبابِ بن المنذر، وقيل: بيد سعد بن عُبادة. قال ابن إسحاق: وكان مع قريشٍ ثلاثة آلاف رجلٍ ومئتا فرسٍ، وليسَ في المسلمين إلَّا فرسٌ واحدٌ، وقال الواقِديُّ: فرس رَسُول الله صلعم وفرس أبي بُردة.
          فصل: معنى قوله تعالى: ({تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:121]) أي تُلزِم، يقال: باءَ بكذا إذا لزمَه: ({وَلَا تَهِنُوا} [آل عمران:139]) لا تَضْعُفوا، قاله أبو عُبيدة، وقيل: إنَّهُ الضَّعف، قال الفرَّاء: وَهَنَه الله وأَوْهَنه، زاد غيره: ووهَّنَه.
          القُـَرَح بضمِّ القاف وفتحها وفتح الرَّاء مصدرُ قرَح يقرَح، قال الكِسائيُّ: هو بالضَّم والفتح واحدٌ، أي الجِراح، وقال الفرَّاء وغيره: هو بالفتح مصدر قَرَحتُه، فهو نفس الجراحة، وبالضَّمِّ: الألم، قال أبو البقاء: ويُقرأ بضمِّهما على الإتباع.
          وقوله: ({وَلِيَعْلَمَ اللهُ}) أي ليعلم صبرَ المؤمنين إذا غُلِبوا، وقد كان تعالى يعلم ذلك غيبًا، إلَّا أنَّ عِلمَ الغيب لا يقع عليه المجازاة، فالمعنى: ليعلمَهُ واقعًا علمَ شهادةٍ.
          وقوله: ({وَلَمَّا يَعْلَمِ} [آل عمران:142]) (لَمَّا) بمعنى لم، إلَّا أنَّ لمَّا عند سيبويه جوابٌ لِمَنْ قال: قد فعلَ، ولم جوابٌ لِمَنْ قال: فعل، ومعنى الآية: ولمَّا يعلم الله ذلك واقعًا منهم لأنَّهُ علمَه غيبًا، وقيل: المعنى لم يكن منهم جهادٌ فيعلمُه الله.
          وقوله: ({تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} [آل عمران:143]) قال مجاهدٌ: كان قومٌ مِنَ المسلمين قالوا بعد بدرٍ: ليتَ قتالًا حتَّى نُبْلِي، فانهزم بعضُهم يومَ أُحُدٍ، فعاتبَه الله بهذه الآية، والبعضُ فسَّر: يتمنَّون سببَ الموت.
          وقوله: ({وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}) قيل: المعنى تَنظرون مُحمَّدًا، وقال: الأخفش بن سعيدٍ: {تَنْظُرُونَ} توكيد أي: وأنتم متيقِّنون.
          ({إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} [آل عمران:152]) أي تستأصلونَهم قتلًا، وقوله: ({مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}) قال بعضُهم: ما علمنا أنَّ منَّا مَنْ يريد الدُّنيا حتَّى نزلت الآية، ومعنى: ({لِيَبْتَلِيَكُمْ}) ليختبركم، وقيل: بالبلاء.
          وقوله: ({وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران:169]) جاء أنَّ أرواح الشُّهداء تَسرحُ في الجنَّة حيث شاءت، ثُمَّ تأوي إلى قناديلَ مُعلَّقةٍ عند العرش.