التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}

          ░4▒ (بَابُ: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ...}) إلى قوله: ({شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:9-13])، قد سلفَ الكلام على هذِهِ الآية في الباب قبله.
          3952- ثمَّ ساق حديثَ ابن مسعود ☺: (شَهِدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ مَشْهَدًا لأَنْ أَكُونَ صَاحبَهُ أَحَبُّ إِلَيِّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ؛ أَتَى النَّبِيَّ صلعم وَهْو يَدْعُو عَلَى المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفِكَ، فَرَأَيْتُ رَسُول الله صلعم أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ).
          3953- وحديثَ عِكرمة عن ابن عبَّاس ☻ قَالَ: (قَالَ النَّبِيُّ صلعم يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ، فَخَرَجَ وَهْو يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45]).
          معنى (أَشْرَقَ) أضاءَ، وكلامه المذكور أراد به تسكينَ نفوس صحابته إلى ذلك، إذ هي أول لقائهم العدوَّ، وكانوا يرقُبُون إجابةَ دعائه فألحَّ في الدُّعاء لذلك، فلمَّا رأى الصِّدِّيقَ سكَنَ لذلك، وقال له: (حَسْبُكَ) أَقصِرْ عن الدُّعاء وبشِّرهُم بالنَّصر، ولا يحلُّ توهُّم أنَّ الصِّدِّيق كان أصحَّ يقينًا مِنْ رَسُول الله صلعم، نبَّه عليه الخَطَّابيُّ، ووقع له يوم أُحُد أيضًا أنَّه قال: ((اللَّهُم إنْ تَشَأْ لا تُعْبَدْ في الأرضِ)) ذكره أبو نُعيم عبيد الله بن الحسن بن أحمد الحدَّاد من حديث أنس في «جمعه بين الصَّحيحين»، وفي روايةٍ: وَاللهِ لَيَنْصُرنَّكَ اللهُ، وليُبيِّضَنَّ وَجْهَكَ. وفي رواية: بَعْضَ مُناشدتِكَ ربَّكَ فإنَّ اللهَ مُنجزٌ لكَ مَا وَعَدكَ. وفي أخرى كَذلكَ: مُنَاشدتكَ ربَّكَ.
          ورواه ثابت في «دلائله» مِنْ حديث عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ عن عمر بن الخطَّاب ☺، قال قاسم بن ثابت في «الدَّلائل» على ما نقله السُّهيليُّ: كذلك قد يُراد بهذا معنى الإغراء والأمر بالكفِّ عن الفعل، قال ثابت: إنَّما قال الصِّدِّيق ذلك رقَّةً على رَسُول الله صلعم لِمَا رأى مِنْ نَصَبِه في الدُّعاء والتَّضرُّع حَتَّى سقط الرِّداء عن مَنْكِبيه، فقال له: بعضَ هذا يا رَسُول الله، أي لِمَ تُتْعِبُ نفسكَ هذا التَّعبَ واللهُ قد وعدكَ بالنَّصر؟ وكان الصِّدِّيق رقيقَ القلب شديدَ الإشفاق على رَسُول الله صلعم، ثمَّ نقل السُّهيليُّ عن شيخه أبي بكر أنَّهُ صلعم كان في مَقام الخوف، وصاحبه في مقام الرَّجا، قال ابن الجوزيِّ: ولمَّا رأى ما بأصحابه مِنَ الهمِّ ناب عنهم في الدُّعاء، لعلمِه بإجابة دعائه فألحَّ لذلك، وقال غيره: لمَّا رأى الملائكة في القتال، وكذا أصحابه، والجهادُ ضربان: بالسَّيف وبالدُّعاء، ومِنْ سُنَّةِ الإمام أن يكون وراء الجيش لا يقاتلُ معهم، فلم يكن ليُريحَ نفسَه مِنْ أحد الِجهادَين، وفي «مغازي الواقديِّ» أنَّ عبد الله بن رُواحة لمَّا دعا رَسُولُ الله صلعم، فقال: يا رَسُول الله، أنتَ أعظمُ وأعلمُ بالله مِنْ أنْ أُشيرَ عليك، إنَّ الله أعظمُ منْ أن تَنْشُدَ وَعْدَه فقال: ((يَا ابنَ رَواحة إنَّما أَنْشُدُ اللهَ وحدَهُ، إنَّ الله لا يُخْلِفُ الميعادَ)).