التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب غزوة العشيرة

          ░1▒ (بَابُ: غَزْوَةِ العُشَيْرَةِ)
          و(قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَوَّلُ مَا غَزَا رَسُولُ الله صلعم الأَبْواءُ ثُمَّ بُوَاطُ ثُمَّ العُشَيْرَةُ).
          3949- ثمَّ ساق مِنْ حديث شُعبةَ: (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ، فَقَيلَ لَهُ: كَمْ غَزَا رَسُولُ الله صلعم مِنْ غَزْوَةٍ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ، قِيلَ: كَمْ غَزَوْتَ أَنْتَ مَعَهُ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، قُلْتُ: فَأَيُّهُمْ كَانَتْ أَوَّلَ؟ قَالَ: العُشَيْرُ أَوِ العُسَيْرُ، فَذَكَرْتُ لِقَتَادَةَ، فَقَالَ: العُشَيْرُةَ).
          الشَّرح: مِنْ هنا شرعَ البخاريُّ ☼ بذكر جماع مغازي سيِّدنا رَسُول الله صلعم، وبعوثه وسراياه، ولا شكَّ أنَّ الله تعالى لمَّا أَذِنَ لرسوله صلعم في القتال، كانت أوَّلَ آية نزلتْ في ذلك: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] كما رُوِّيناه مِنْ طريق سعيد بن جُبير والزُّهْريِّ، وقال: ((أُمرتُ أنْ أُقاتلَ النَّاس...)) الحديث، قال أهل السِّير كما طرَّقه ابن سعْدٍ عنهم: كان عدد مغازيه الَّتي غزا بنفسه سبعةً وعشرين، وكانتْ سراياه الَّتِي بعث فيها سبعةً وأربعين سريَّة، قلت: وينتهي بالتَّأمُّل _إنْ شاء الله_ المجموع فوق المِئَة كما سيمرُّ بك في هذا الشَّرح المبارك، وكان ما قاتل فيها مِنَ المغازي تسعةً: بدر القتال، وأُحُدٌ والمُرَيْسِيعُ والخندقُ، وقُرَيظةُ وخَيبرُ وفتحُ مكَّة وحُنينٌ والطَّائف، وفي روايةٍ أنَّه قاتلَ في بني النَّضير، ولكنَّ الله جعلها له نَفَلًا خاصَّة، وقاتل في غَزاة وادي القُرى مُنصَرَفَهُ مِنْ خَيبرَ، وقُتل بعضُ أصحابه، وقاتل في الغابة، فأوَّلُ مغازيه بنفسه غزوةُ وَدَّان على رأس اثني عشر شهرًا مِنْ مَقْدَمِهِ المدينة لاثنتي عشرة ليلةً مضتْ مِنْ صفر، وهي غزوةُ الأَبْواء، ثمَّ رجَع إلى المدينة، قالَه ابن إسحاق.
          وكان استَعمل عليها سعدَ بن عُبادة فيما ذكره ابن هِشام، قال ابن إسحاق: فوادَعَتْهُ فيها بنو ضَمْرة، وكان الَّذي وادَعَه منهم مَخْشِيُّ بْنُ عَمْرٍو الضَّمَرِيُّ، وكان سيِّدَهم في زمانه ثم رجع ولم يلقَ كيدًا، ثم ذكر ابن إسحاق بعدَه بعْثَ حمزة بن عبد المطَّلب بن عبد مَناف وعُبيدة بن الحارث بن المطَّلب بن عبد مَناف، في ربيع الأوَّل في ستِّين أو ثمانين راكبًا مِنَ المهاجرين ليس معهم أحدٌ مِنَ الأنصار، فسار حتَّى بلغ ماءً بالحجاز بأسفل ثنيَّة المَرَة، فلقيَ بها جمعًا عظيمًا مِنْ قريش، فلم يكن منهم قتالٌ، إلَّا أنَّ سعدَ بن أبي وقَّاص قد رمى يومئذٍ بسهم، فكان أوَّلَ سهم رُمِيَ به في الإسلام.
          قال ابن إسحاق: وكانت راية عُبيدة فيما بلغنا أوَّلَ راية عُقِدتْ في الإسلام، وبعضُ العلماء يزعُم أنَّهُ ◙ بعثَه حين أقبل مِنْ غزوة الأبواء قبل أن يصلَ إلى المدينة، وبعث في مقامه ذلك حمزة بن عبد المطَّلب بن هاشم إلى سِيْفِ البحر مِنْ ناحية العِيْص في ثلاثين راكبًا، فلقي أبا جهل ولم يكن قتال، قال: وبعض النَّاس يقول: كانت راية حمزة أوَّل راية عَقَدها رَسُول الله صلعم، وذَلِكَ أنَّ بَعْثَهُ وبَعْثَ عُبيدة كانا معًا فشُبِّهَ ذلك على النَّاس.
          وقال موسى بن عُقبة: أوَّل البُعوث بعْثُ حمزة، ثمَّ بعْثُ عُبيدة، ثمَّ سريَّة سعد بن أبي وقَّاص إلى الخرَّار في ذي القَعْدة، ثم غزوة الأبواء، وهي غزوة ودَّان على رأس اثني عشر شهرًا. قال ابن إسحاق: ثمَّ غزا في ربيع الأوَّل حَتَّى بلغ بُواط مِنْ ناحية رَضوى، ثمَّ غزوة العشيرة الَّتِي ذكرها البخاريُّ ونقلها عن ابن إسحاق.
          إذا علمت ذَلِكَ فالكلام مِنْ وجوه:
          أحدها: قوله: (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِقَتَادَةَ) هو شُعبة فيما نسبه.
          وقوله: (قُلْتُ: فَأَيُّهُمْ كَانَتْ أَوَّلَ؟) قال الدِّمْياطيُّ: مقتضى الكلام أيُّهنَّ أو أيُّها، وفي «مسند أبي داود الطَّياليسيِّ»: حدَّثنا شعبة عن أبي إسحاق: قلت لزيد بن أَرْقم: ما أوَّلُ غزوةٍ غزاها رَسُولِ الله صلعم؟ قال: ذاتُ العُسَير أو العُسَيرة، وفي «مسند مسلم» و«تاريخ ابن أبي خَيثمة» مِنْ رواية غُنْدَرٍ عن شُعْبة بسنده: ذات العُشير أو العُسير، وتابع شعبةَ إسرائيلُ عن أبي إسحاق عن زيد، إلَّا أنَّهُ لا ذكر لأُولاهُنَّ، قاله عبد الله بن رجَاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: غزوتُ مع رَسُول الله صلعم خمسَ عشرة، ذكره في آخر المغازي [خ¦4472].
          ثانيها: قال عِياض: وقع في البخاريِّ: العُشير والعَسِير بفتح العين وكسر السِّين المهملة وحذف الهاء، قال: والمعروف تصغيرها وبالشِّين المعجمة، وحكي أيضًا فتحُ المهملة وضمُّ العين بغير هاء، ذكر ذلك الحاكم، قال السُّهيليُّ: معنى العسيرة والعُسيراء أنَّه اسمٌ مصغَّر مِنَ العُسْرى والعَسْراء، فإذا صُغِّر تصغير التَّرخيم، قلت: عُسَيرة، وهي بقلةٌ أَذَنَةٌ، أي عَصيفَة، ثم تكون سحَّاء، ثم يقال لها: العُسرى، وأما العُشَيْرَة _بالشِّين المعجمة_ فتصغير واحد العشر، قال أبو عبيد: خرج صلعم مِنَ المدينة فسلك على نقب بني دينار، ثم فَيْفَاء الخَبَار، ثمَّ سلك شِعْب عبد الله، ثم هبط يَلْيَل فنزل بمجتمعه، ثمَّ سلك فرْشَ مَلَل حَتَّى لقي الطَّريق بصُحَيرات اليَمَام، ثمَّ اعتدل به الطريق حَتَّى نزل العُشيرة، قال حسَّان بن ثابت يذكر قومه في أبيات منها:
وَبَايَعُوهُ فَلَمْ يَنْكُثْ بهِ أَحَدٌ                     مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُ في إيمانهِ خَلَلُ
وَذَا العُشَيْرَةِ جَاسُوهَا بِخَيْلِهِمُ                     مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهَا البِيضُ وَالأسَلُ
          ثالثها:كانت في جمادى الآخرة على رأس ستَّةَ عشر شهرًا مِنَ المهاجر فيما ذكره ابن سعد، وحمل لواءَه حمزة وكان أبيضَ، واستخلفَ على المدينة أبا سَلَمة بن عبد الأسد، وخرج في خمسين ومِئَة، ويقال: في مئتين مِنَ المهاجرين على ثلاثين بعيرًا يعتقَّبونَها، فبلغ ذا العُشيرة وهي لبني مُدْلِج بناحية يَنْبُعَ، وبين يَنْبُعَ والمدينة تسعة بُرُدٍ. وفي هذِه الغزوة كنَّى عليًّا أبا تراب وأخبره بأشقى النَّاس عاقر الناقة وقاتله، ووادَعَ بَني مُدلج وحلفاءَهم مِنْ بني ضَمرة، وذكرها ابنُ إسحاق في جُمادى الأولى قال: وأقام بها بقيَّتَهُ ولياليَ مِنْ جُمادى الآخرة، وكذا قال موسى بن عُقبة: إنَّها في جمادى الأولى، ووجد العِير الَّتِي خرج إليها قد مضتْ قبل ذلك بأيَّام، وهي العِير الَّتِي خرج إليها حين رجَعتْ مِنَ الشَّام، فكانتْ بسببها وقعةُ بدرٍ الكبرى.
          رابعها: قولُ ابن إسحاق مخالفٌ لِمَا ذكره عن زيد بن أرقم أنَّها أوَّلُ غزواته، فيحتملُ أنْ يكون زيد أشار إلى أنَّها أوَّل غزوة كان فيها مناوشة وقتال، أو أوَّل غزواته مع رَسُول الله صلعم أو بالنِّسبة إلى ما علمه. وادَّعى الدَّاوديُّ أنَّهُ قيل: إنَّهُ صلعم لم يحضرها بنفسه، وهو خِلاف ما قاله موسى بن عقبة أنَّهُ غزاها مع المهاجرين خاصَّة، ولذا هو خِلافُ ما ذكرَه ابنُ سعد وابن إسحاق، وادَّعى الدَّاوديُّ أنَّ عدَّة مغازيه وسراياه خمسًا وأربعين، وقد أهملَ أكثر ممَّا ذكر كما أسلفناه، قال: وألفى القتال بنفسه في ثمانٍ ذَكَرها الله في القرآن: بدرٌ سنة اثنين، وأُحُدٌ سنة ثلاث، والأحزابُ سنة أربع وفيها بنو قُرَيظة، وبنو المصْطَلِق سنة خمس، وخيبرُ سنة ستٍّ، ويُقال: أوَّلَ سنةِ سبع، والفتح وحُنين سنة ثمان، ولعلَّهُ أرادَ بقوله ألفى القتال بنفسه في ثمانٍ: قاتل فيها، وقد سلف أنَّهُ قاتَل في غير ذلك، والأحزاب هي الخندق، وقيل: إنَّها سنة خمس، نعم، قال مالك: كانت على أربع في بَرْدٍ شديد، وقوله في بني المُصْطَلِق: إنَّها في سنة خمس، قال غيره: سنة ستٍّ.