الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة

          ░114▒ (باب: نظر المرأة إلى الحَبَش ونحوهم مِنْ غير رِيبةٍ)
          أي: تهمةٍ و(نحوهم) أي: مِنَ الأجانب، قال الحافظ: وظاهر التَّرجمة أنَّ المصنف كان يذهب إلى جواز نظر المرأة إلى الأجنبيِّ بخلاف عكسه، وهي مسألةٌ شهيرةٌ، واختَلف التَّرجيح فيها عند الشَّافعيَّة، وحديث الباب يساعد مَنْ أجاز، إلى آخر ما بسط الحافظ.
          وقال القَسْطَلَّانيُّ: قال النَّوَويُّ: نظر الوجه والكفَّين عند أَمْن الفتنة مِنَ المرأة إلى الرَّجل وعكسُه جائزٌ وإن كان مكروهًا، لقوله تعالى في الثَّانية: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] وهو مفسَّرٌ بالوجه والكفَّين وقيس بها الأولى وهذا ما في «الرَّوضة» عن أكثر الأصحاب، والَّذي صحَّحه في «المنهاج» التَّحريم وعليه الفتوى... إلى آخر ما ذكر.
          وقال العَينيُّ: أشار بهذا إلى أنَّ عنده جوازَ نظر المرأة إلى الأجنبيِّ دون نظر الأجنبيِّ إليها، وإنَّما ذكر الحبشة وإن كان الحكم في غيرهم كذلك، لأجل ما ورد في حديث الباب، وأراد البخاريُّ به الرَّدَّ لحديث أمِّ سلمة أنَّها قالت: ((كنت أنا وميمونة جالستين عند رسول الله صلعم فاستأذن عليه ابن أمِّ مكتومٍ فقال: احتجبا منه فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال: أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه)) أخرجه الأربعة، وقال التِّرْمِذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، قال ابن بطَّالٍ: حديث عائشة_أعني حديث الباب _ أصحُّ مِنْ حديث نبهان، لأنَّ نبهان ليس بمعروفٍ بنقل العلم... إلى آخر ما بسط.
          وفي «الأوجز»: قال الموفَّق: أمَّا نظرُ الرَّجل إلى الأجنبيَّة مِنْ غير سببٍ فإنَّه محرَّمٌ إلى جميعها في ظاهر كلام أحمد، وقال القاضي: يحرم عليه النَّظر إلى ما عدا الوجهَ والكفَّين لأنَّه عورةٌ ويباح له النَّظر إليهما(1) مع الكراهة إذا أمن الفتنة ونظر بغير شهوةٍ، وهذا مذهب الشَّافعيِّ، لقوله عزَّ اسمه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال ابن عبَّاسٍ: الوجه والكفَّين، إلى أن قال: وأمَّا نظر المرأة إلى الرَّجل ففيه روايتان:
          إحداهما: لها النَّظر إلى ما ليس بعورةٍ.
          والأخرى: لا يجوز لها النَّظر مِنَ الرَّجل إلَّا إلى مثل ما يَنظر إليها منها، وهذا / أحد قولي الشَّافعيِّ لحديث نبهان عن أمِّ سلمة المذكور سابقًا، رواه أبو داود وغيره، إلى آخر ما بسط.
          وقال الدَّرْدير: وهي مِنْ حرَّةٍ مع رجلٍ أجنبيٍّ مسلمٍ غيرُ الوجه والكفَّين مِنْ جميع جسدها حتَّى فصَّتها(2)(3) وإن لم يحصل الالتذاذ، وأمَّا مع أجنبيٍّ كافرٍ فجميع جسدها حتَّى الوجه والكفَّين، وترى المرأة مِنَ الرَّجل الأجنبيِّ ما يراه الرَّجل مِنْ مَحْرَمِه: الوجه والأطراف، أي: مِنْ عنقٍ ورأسٍ وظهر قدمٍ، قال الدُّسوقيُّ: قوله: غير الوجه والكفَّين، أي: وأمَّا هما فغير عورةٍ يجوز النَّظر إليهما، ولا فرق بين ظاهر الكفَّين وباطنهما بشرط ألَّا يُخشى بالنَّظر بذلك(4) فتنةٌ، وأن يكون النَّظر لغير قصده(5) لذَّةً وإلَّا فحرم النَّظر لهما. انتهى.
          وفي «الهداية»: لا يجوز أن ينظر الرَّجل إلى الأجنبيَّة إلَّا إلى وجهها وكفَّيها، ويجوز للمرأة أن تنظر مِنَ الرَّجل إلى ما ينظر الرَّجل إليه منه، أي: مِنَ الرَّجل إذا أُمِنت الشَّهوة لاستواء الرَّجل والمرأة في النَّظر إلى ما ليس بعورةٍ. انتهى.
          وفي «الإقناع» في الفروع الشَّافعيَّة: ونظرُ الرَّجل إلى المرأة على سبعة أضربٍ أحدُها نظره إلى أجنبيَّةٍ غير الوجه والكفَّين ولو غيرَ مشتهاةٍ قصدًا لغير حاجةٍ فغيرُ جائزٍ قطعًا وإن أَمِن الفتنة، وأمَّا نظره إلى الوجه والكفَّين فحرامٌ عند خوف فتنةٍ تدعو إلى الاختلاء بها لجماعٍ أو مقدِّماته بالإجماع كما قاله الإمام، ولو نظر إليهما بشهوةٍ وهي قصد التَّلذُّذ بالنَّظر المجرَّد وأمن الفتنة حَرمَ قطعًا، وكذا يحرم النَّظر إليهما عند الأمن مِنَ الفتنة فيما يظهر له مِنْ نفسه مِنْ غير شهوةٍ على الصَّحيح كما في «المنهاج» ووجَّهَه الإمام باتِّفاق المسلمين على منع [النِّساء] مِنَ الخروج سافرات الوجوه وبات(6) النَّظر مظنَّة الفتنة ومحرِّك للشَّهوة، وقد قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية [النور:30]، واللَّائق بمحاسن الشَّريعة سدُّ الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال كالخلوة بالأجنبيَّة بأنَّهم لم يفصِّلوا في ذلك بل حرَّموا الاختلاء بها مطلقًا سدًّا لباب الفساد، وقيل: لا يحرم، أي: النَّظر للوجه والكفَّين لقوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] وهو مفسَّرٌ بالوجه والكفَّين، ونسبه الإمام للجمهور، والشَّيخان للأكثرين، وقال في «المهمَّات»: إنَّه الصَّواب لكون الأكثرين عليه، وقال البُلْقينيُّ: التَّرجيح بقوَّة المدرك والفتوى على ما في «المنهاج». انتهى.
          وفي «هامش النُّسخة الهنديَّة» عن «التَّوشيح»: قوله: ((وأنا أنظر إلى الحبشة)) إلى آخره، كان ذلك عام قدومهم سنة سبعٍ ولعائشة يومئذٍ ستَّ عشرةَ سنةً وذلك بعد الحجاب، فيُستدلُّ به على جواز نظر المرأة إلى الرَّجل. انتهى.
          والجملة أنَّ الغرض مِنَ التَّرجمة بيانُ جواز نظر المرأة إلى الرَّجل الأجنبيِّ وهو كذلك عند الأئمَّة الثَّلاثة، كما يظهر مِنَ النُّقول المتقدِّمة ويخالف مذهب الشَّافعيَّة على قولٍ، والله تعالى أعلم.


[1] في (المطبوع): ((إليها)).
[2] في (المطبوع): ((قصتها)).
[3] كذا في الأصل وفي حاشية الدردير: قِصَّتِهَا
[4] في (المطبوع): ((لذلك)).
[5] في (المطبوع): ((قصد)).
[6] في (المطبوع): ((وبأنَّ)).