الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب من قال لا رضاع بعد حولين

          ░21▒ (باب: مَنْ قَالَ لا رَضَاع بَعْدَ حَوْلَيْنِ)
          قال الشُّرَّاح: غرض التَّرجمة: الرَّدُّ على الإمام أبي حنيفة في قوله: إنَّ أكثر مدَّة الرَّضاع ثلاثون شهرًا، والأوجَهُ عندي أنَّ الغرض مِنَ التَّرجمة الرَّدُّ على رضاعة الكبير، فقد ترجم الإمام أبو داود على حديث الباب (باب: في رضاعة الكبير).
          قال الشَّيخ في «البذل»: وإليه ذهبت عائشة وعروة بن الزُّبَير وعطاء بن أبي رباحٍ واللَّيث بن سعدٍ وابن عُليَّة، وحكاه النَّوَويُّ عن داود الظَّاهريِّ، وإليه ذهب ابن حزمٍ. انتهى.
          فهاهنا مسألتان:
          الأولى: اختلافهم في أقصى مدَّة الرَّضاع، وهي الَّتي ذكرها الشُّرَّاح هاهنا.
          والثَّانية: مسألة رضاعة الكبير.
          قال الحافظ: أشار بهذا إلى قول الحنفيَّة: إنَّ أقصى مدَّة الرَّضاع ثلاثون شهرًا، وحجَّتهم قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] أي: المدَّة المذكورة لكلٍّ مِنَ الحمل والفِصال، وهذا تأويلٌ غريبٌ، والمشهور عند الجمهور أنَّها تقديره أقلُّ(1) الحمل وأكثر مدَّة الرَّضاع، وإلى ذلك صار أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن، ويؤيِّد ذلك أنَّ أبا حنيفة لا يقول: إنَّ أقصى الحمل سنتان ونصفٌ، وعند المالكيَّة روايةٌ توافق قول الحنفيَّة، لكنَّ مَنْزِعهم في ذلك أنَّه يُغتفر بعد الحولين مدَّةٌ يدمن الطِّفل فيها على الفطام، لأنَّ العادة أنَّ الصَّبيَّ لا يُفطم دفعةً واحدةً، بل على التَّدريج في أيَّامٍ قليلاتٍ، فللأيَّام الَّتي يحاوَل فيها فطامُه حكمُ الحولين.
          ثُمَّ اختلفوا في تقدير تلك المدَّة، قيل: يغتفر نصف(2) سنةٍ، وقيل: شهران، وقيل: شهرٌ ونحوه، وقيل: أيَّامٌ يسيرةٌ، وقيل: شهرٌ، وقيل: لا يزاد على الحولين، وهي رواية ابن وهبٍ عن مالكٍ وبه قال الجمهور، ومِنْ حجَّتهم حديث ابن عبَّاسٍ رفعه: ((لا رضاع إلَّا ما كان في الحولين)) أخرجه الدَّارَقُطْنيُّ، وقال: لم يسنده وعن(3) ابن عُيَينة غير الهيثم بن جميلٍ وهو ثقةٌ حافظٌ، إلى آخر ما بسط في فروع المسألة.
          وقال القَسْطَلَّانيُّ: وقد ورد ظواهرُ أحاديثَ تمسَّك بها العلماء، فذهب الشَّافعيُّ والجمهور إلى إناطة الحكم بالحولين بالأهلَّة مِنْ تمام انفصال الولد، وعن أبي حنيفة: إناطته بحولين ونصفٍ، وعن زُفَر: بثلاثةٍ، وعن مالكٍ: بزيادة أيَّامٍ بعد الحولين، وعنه: بزيادة شهرٍ وشهرين، وروايةٌ: بثلاثة أشهرٍ، لأنَّه يُغتفر بعد الحولين مدَّةٌ يدمن فيها الطِّفل على الفطام، لأنَّ العادة أنَّ الطِّفل لا يُفطم دفعةً واحدةً بل على التَّدريج، وقيل: لا يزاد على الحولين، وهو رواية ابن وهبٍ عن مالكٍ، وبه قال الجمهور، لحديث ابن عبَّاسٍ عند الدَّارَقُطْنيِّ مرفوعًا: ((لا رضاع إلَّا ما كان في الحولين)) وللتِّرمذيِّ وحسنه: ((لا رضاع إلَّا ما فتق الأمعاء وكان قبل الحولين)).
          وأمَّا حديث سهلة السَّابق بعضُه في (باب: الأكفاء في الدِّين) أنَّها قالت: يا رسول الله إنَّا كنا نرى سالمًا ولدًا وقد أنزل الله فيه ما قد علمت، فماذا تأمرني؟ فقال: (أرضعيه خمس رضعاتٍ يحرم بهنَّ عليك) ففعلت فكانت تراه ابنًا، فأجاب عنه الشَّافعيُّ وغيره بأنَّه مخصوصٌ بسالمٍ.
          قال القاضي: ولعلَّ سهلة حلبت لبنها فشربه مِنْ غير أن يمصَّ ثديها ولا التقت بشرتاهما، قال النَّوَويُّ: وهو حسنٌ، ويحتمل[أنَّه] عفى(4) عن مسِّه لحاجةٍ كما خصَّ بالرَّضاعة مع الكبر. انتهى.
          قوله: (وما يُحَرِّم مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وكَثِيرِهِ) تمسُّكًا بعمومات أحاديث [كحديث] الباب، وهو قول مالكٍ وأبي حنيفة ومشهور مذهب أحمد، وذهب آخرون إلى أنَّ الَّذي يحرِّم ما زاد على رضعةٍ، وورد عن عائشة: عشر رضعاتٍ، أخرجه مالكٌ في «الموطَّأ»، وعنها أيضًا: سبعٌ أخرجه ابن أبي خَيثَمة بإسنادٍ صحيحٍ، وعنها أيضًا في مسلمٍ: / ((كان فيما أنزل مِنَ القرآن عشر رضعاتٍ معلوماتٍ، ثُمَّ نُسخن بخمس رضعاتٍ محرِّماتٍ)) الحديث، وإلى هذا ذهب إمامنا الشَّافعيُّ ⌂ . انتهى.
          قاله القَسْطَلَّانيُّ في(5) «هامش النُّسخة الهنديَّة» عن الكَرمانيِّ: مذهب البخاريِّ أنَّ الحرمة تثبت برضعةٍ واحدةٍ، وعليه أبو حنيفة ومالكٌ، وقد صرَّح في التَّرجمة به. انتهى.


[1] في (المطبوع): ((أنها تقدير مدة أقل)).
[2] في (المطبوع): ((نصب)).
[3] في (المطبوع): ((عن)).
[4] في (المطبوع): ((عفي)).
[5] في (المطبوع): ((وفي)).