الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث البراء: أمرنا النبي بسبع ونهانا عن سبع

          1239- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ): مكبَّراً؛ أي: هشام بن عبد الملك الطَّيالسِي، قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ): أي: ابن الحجَّاج (عَنِ الأَشْعَثِ): بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح العين وبمثلثة؛ أي: ابن أبي الشَّعثاء (قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ): مصغَّراً (ابْنِ مُقَرِّنٍ): بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء مكسورة.
          (عَنِ الْبَرَاءِ): بتخفيف الراء وبالمد، وللأصيلي وأبي الوقتِ وابن عساكرٍ زيادة: <ابن عازب> بزاي فموحدة (☺): وأوردهُ في المظالم من طريقٍ آخر فقال فيه: سمعت البراءَ بن عازب، ولمسلمٍ من طريق معاوية بن سويد قال: دخلتُ على البراء بن عازب فسمعتهُ يقول، فذكر الحديث.
          (قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ) ولأبي ذرٍّ: <رسول الله> (صلعم بِسَبْعٍ): أي: بسبع خصالٍ أو أمور (وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ): ثم فصَّل الأمرين على سبيل اللَّفِّ والنشر المرتَّب، فقال: (أَمَرَنَا): بالبناء للفاعل؛ أي: أمرنا رسولُ الله صلعم (بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ): بتشديد المثناة الفوقية؛ أي: المضيِّ معها وتشييعها، فقد روى المصنف وغيره عن أبي هريرة ☺ رفعه: ((من اتَّبعَ جنازةَ مسلِمٍ إيماناً واحتِسَاباً، وكانَ معَهَا حتَّى يُصلَّى عليها ويفرغَ من دفنِهَا فإنَّه يرجعُ من الأجْرِ بقِيراطَيْنِ)).
          وهو فرض كفايةٍ وقد يصيرُ فرض عينٍ، ومثله تكفينها ودفنها والصلاة عليها، وقال أصبغ من المالكيَّة: الصَّلاةُ عليها سنَّةٌ.
          قيل: في التَّعبيرِ باتباع الجنائز إشارةٌ إلى أنه يمشي خلفها، وهو أفضلُ عند الحنفيَّةِ، والاتباع يحصلُ بالمشي معها مطلقاً، والأفضلُ عند الشَّافعية والحنابلة كونه أمامها، وعند المالكيَّة ثلاثةُ أقوال: التَّقدُّم والتأخُّر: تقدم الماشي وتأخُّر الراكب، والمشهورُ
           / عنهم كمذهبنا، وأما النساءُ فيتأخَّرن بلا خلافٍ عند الجميع، ودليلنا: أنَّهم شفعاء وشأنه التقديم؛ ولأن الاتِّباعَ لا يستلزمُ المشي خلفها، ولحديثِ أبي داود وغيره بسندٍ صحيحٍ عن ابن عُمر قال: ((رأيتُ النبيَّ صلعم وأبا بكرٍ وعمر يمشونَ أمام الجنازَةِ))، وروى الترمذي والنسائيُّ وابن ماجه نحو ما رواه أبو داود.
          قال العيني: وبه قال القاسم وسالم بن عبد الله والزهري وشريح وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عقبة وعلقمة والأسود وعطاء ومالك وأحمد، ويُحكى ذلك عن أبي بكرٍ وعمر وعثمان وابن عمر وأبي هريرة والحسن بن علي وابن الزُّبير وغيرهم.
          وذهبَ النخعي والثوري والأوزاعي ومسروق وأبو قلابة وأبو حنيفة وصاحباه وإسحاق وأهلُ الظَّاهر إلى أن المشيَ خلفها أفضل، ويروى ذلك عن عليٍّ وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وأبي أمامة وعمرو بن العاصي ♥.
          واحتجُّوا بما رواه أبو داود بسندهِ إلى أبي هريرة ☺ عن النَّبيَّ صلعم أنه قال: ((لا تُتبَعُ الجِنَازةُ بصَوتٍ ولا نَارٍ)) وزاد هارون: ((ولا يُمشَى بينَ يدَيها))، وبما رواهُ عبد الرزاق في ((مصنفه)) بسنده عن أبي أمامة أنه قال: سأل أبو سعيدٍ الخُدري علي بن أبي طالبٍ ☺ عن المشيِ خلف الجنازة أفضل أم أمامها؟ فقال عليٌّ: والذي بعث محمَّداً بالحقِّ إن فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل الصَّلاة المكتوبة على التَّطوُّع، فقال له أبو سعيدٍ: أبرأيك تقول أم شيءٌ سمعتهُ من رسول الله؟ فغضبَ وقال: لا والله، بل سمعتهُ غير مرة ولا اثنتين ولا ثلاثاً حتى سبعاً، فقال أبو سعيدٍ: إني رأيت أبا بكرٍ وعُمر يمشيان أمامها، فقال عليٌّ: يغفر الله لهما، لقد سمعا ذلك من رسولِ الله صلعم كما سمعته، وإنهما والله لخيرُ هذه الأمَّة، ولكنهما كرها أن يجتمع الناس ويتضايقوا فأحبَّا أن يسهِّلا على الناس، انتهى.
          وأطالَ من إيراد أحاديث تدلُّ لمذهبه ومن المناقشةِ في دليل غيره.
          وقال القسطلاني: وأما حديث: ((امشوا خلفَ الجنازةِ)) فضعيفٌ، وأجابَ أئمتنا عن حديثِ الباب: بأن الاتِّباع محمولٌ على الأخذ في طريقها، والسَّعي لأجلها كما يقال: الجيشُ يتبع السُّلطانَ، وإن تقدم كثيرٌ منهم في المشيِ والركوب وهذا الخلافُ في الرجال، أما النساء فيتأخَّرن اتفاقاً.
          (وَعِيَادَةِ): بكسر العين؛ أي: زيارةِ (الْمَرِيضِ): أي: المسلم وكذا ذميٌّ قريبٌ للعائد، أو جار له ومثله المعاهدُ والمستأمن وفاءً بحق القرابة والجوار.
          وقال في ((المجموع)): وفي استحباب عيادةِ أهل البدع المنكرةِ وأهل الفجور والمكوس إذا لم تكن قرابةٌ ولا جوارٌ ولا رجاء توبةٍ نظر؛ فإنا مأمورون بمهاجرتهم، وينبغي أن تكون غبًّا إلا أن يكون نحو قريبٍ أو صديقٍ مما يستأنسُ به المريض أو يتبرَّك به أو يشقُّ عليه عدم رؤيته كلَّ يومٍ، وإلا فيواصلون ما لم يعلموا كراهته.
          وأما ما ذكرهُ الغزاليُّ من أنه لا يعادُ قبل ثلاث أيَّامٍ لخبر فيه. ردُّوه بأنه موضوعٌ.
          ويسنُّ للزائر أن يدعو للمريض وأن يقول في دعائه سبعَ مرات: ((أسألُ اللَّهَ العَظِيم ربَّ العرشِ العظيمِ أن يشفيكَ))، رواه التِّرمذيُ وحسنه، وزيدَ في رواية: ((ويعافيكَ))، وهي سنَّةٌ، وقيل: واجبةٌ لظاهر حديثي الباب، وروي ذلك عن جماعةٍ من الصحابة، منهم: أبو موسى وثوبان وأبو هريرة وعلي بن أبي طالبٍ وأبو أسامة وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر وأنس وأسامة بن زيد، وسعد بن أبي وقاص وابن عبَّاسٍ وعمر بن الخطَّاب وأبو عبيدة والمسيِّب بن حزن وسلمان ومعاذ بن جبل وغيرهم.
          وقد ورد في زيارة المريض أحاديث كثيرةٌ، منها: ما رواهُ البخاري عن أبي موسى يرفعه: ((عُودُوا المريضَ وأطعِمُوا الجائِعَ وفكُّوا العاني)).
          ومنها: ما رواه مسلمٌ عن ثوبان: أن النَّبيَّ قال: ((إنَّ المسلِمَ إذا عادَ أخَاهُ المسلِمَ لم يزَلْ في خُرفَةِ الجنَّةِ حتى يرجِعَ)) قيل: يا رسول الله وما خُرفة الجنَّة؟ قال: ((جَناها))، وهو بفتح الجيم وتخفيف النون: ثمرها المجنيُّ منها.
          ومنها: ما رواه الترمذيُّ عن عليِّ بن أبي طالبٍ يرفعه: ((ما من مُسلِمٍ يعودُ مُسلِماً إلا ابتعثَ الله / سبعِينَ ألف ملكٍ يُصلُّونَ عليه أيَّ ساعةٍ من النَّهارِ حتى يُمسِي، وأيَّ ساعَةٍ من اللَّيلِ كانت حتَّى يُصبِح)).
          ومنها: ما رواه التِّرمذيُّ وقال: حسن، عن عليٍّ ☺ قال: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((ما مِن مُسلمٍ يعودُ مسلماً غُدوةً إلَّا صلَّى عليهِ سبعُون ألفَ ملكٍ حتى يُمسِيَ، وإن عادهُ عشيَّةً إلَّا صلَّى عليه سبعُون ألف ملكٍ حتى يُصبِح، وكان له خرِيفٌ في الجنَّة)).
          (وَإِجَابَةِ الدَّاعِي): لما سيأتي للمصنف من حديثِ أبي هريرة: ((إن من حقِّ المسلِمِ على المُسلِمِ أن يُجِيبهُ إذا دعَاهُ))، ثمَّ إن كانت الدَّعوةُ لوليمة عرسٍ فتجبُ الإجابة إليها بشروطها المقررة في الفروع، منها: أن لا يشتملَ مكانها على محرمٍ كفرش الحرير والقصب ونظرِ الأجنبيات إليه إن كان لا يزولُ بحضورهِ، وإلا وجبتْ لأمرين.
          وقال العينيُّ: قال بعضهم: إجابةُ الدَّعوةِ واجبةٌ لا يسعُ تركها، واحتجُّوا بما رويَ عن النَّبي صلعم أنه قال: ((من لم يجبْ الدَّعوةَ فقد عَصَى أبا القاسمِ))، وقال عامَّةُ العلماءِ: ليست بواجبةٍ، ولكنها سنَّةٌ والأفضلُ الإجابةُ إذا كانت الوليمةُ يدعى فيها الغنيُّ والفقير، انتهى.
          والقولُ بالوجوب محمولٌ عندنا على وليمةِ العرس لا على غيرها، ولا يجبُ الأكل منها وإن كان غير صائمٍ.
          وقال ابنُ بطَّال: إن كانت الدعوة إلى وليمةِ النكاح فجمهورُ العلماء يوجبونها فرضاً ويوجبونَ الأكل فيها على من لم يكن صائماً إن كان الطعام طيِّباً، ولم يكن في الدعوة منكرٌ، وغير ذلك من الدعوات يراهُ العلماء حسناً من باب حسن الصُّحبة، انتهى فتأمَّله مع ما ذكرهُ العيني، وأطالَ من نقل المذاهبَ والأقوالَ في ذلك.
          (وَنَصْرِ): بسكون الصاد؛ أي: إعانةِ (الْمَظْلُومِ): مسلماً كان أو ذميًّا بالقول أو الفعل.
          قال ابنُ بطَّال: هو فرضٌ على من يقدر عليه ويطاعُ أمره، انتهى.
          وروى أبو الشَّيخ ابن حبان في كتاب ((التوبيخ)) عن ابن عبَّاس قال: قال رسولُ الله صلعم: ((قال الله تبارَكَ وتعالى: وعِزَّتِي وجَلَالِي لأنتقِمنَّ من الظَّالِم في عاجِلِهِ وآجلِهِ، ولأنتقِمَنَّ ممَّن رأى مَظلُوماً فقدِرَ أن ينصُرَهُ فلم يفعَلْ)).
          وروى أبو داود عن معاذ بن أنسٍ الجهني عن النَّبي صلعم أنه قال: ((مَن حَمَى مُؤمِناً من منافِقٍ _أراهُ قال_ بعثَ الله ملكاً يحمِي لحمَهُ يومَ القيَامةِ من نارِ جهنَّمَ)).
          (وَإِبْرَارِ): بكسر الهمزة، مصدر أبرَّ، يقال: برَّ قسماً وأبرَّهُ من البرِّ خلاف الحنث (الْقَسَمِ): بفتحات، ويروى: ((المقسم)) اسم فاعلٍ من أقسم؛ أي: تصديق من أقسمَ عليك بأن تفعل ما سأله منكَ الحالف إذا لم يكن مكروهاً ولا حراماً، ولم يشقَّ عليك، ولا ترتب على تركهِ مصلحة، ولهذا قال النَّبي لأبي بكرٍ في قصة تعبير الرؤيا: ((لا تقسم)) حين قال: أقسمتُ عليك يا رسول الله لتخبرني بالذي أصبت.
          وقيل: المرادُ أنه لو حلف أحدٌ على أمر مستقبل وأنت تقدر على إبرار يمينه، كأن حلفَ أن لا يفارقك حتى تفعل كذا وأنت تقدر على فعله، فينبغِي لك أن تبرَّ يمينه، فلو قال إنسانٌ آخر: بالله عليك أو أقسمُ عليك أن تفعلَ كذا يكون يميناً من الحالف إن أرادَ اليمين، وإلا فلو قصدَ الاستشفاعَ أو أطلقَ لا يكون يميناً.
          (وَرَدِّ السَّلاَمِ): وهو من فروضِ الكفايات عند مالكٍ والشَّافعي وأحمد، وأمَّا عند الكوفيين ومنهم الحنفية: فرض عينٍ على كلِّ من سمعهُ، كذا في ((التوضيح)) تبعاً لابن بطَّال.
          وقال العينيُّ: قال أصحابنا: ردُّ السَّلامِ فريضةٌ على كلِّ من استمع السَّلامَ، لكن إذا قامَ به البعضُ سقط عن الباقين، انتهى.
          وهذا شأنُ فرض الكفاية، فتأمَّل.
          وأما ابتداؤهُ فهو سنَّةٌ، وهو أفضلُ من ردِّه كإنظارِ المعسر وإبرائه، ولا بدَّ أن يسمعهُ إن خلا عن نحو لغطٍ وصمم، ومرَّ الكلامُ على هذه المسألةِ مستوفًى في الفروع.
          (وَتَشْمِيتِ): بشين معجمة أو مهملة، لكن المعجمة أفصحُ، من الشَّوامت وهي القوائمُ؛ لأنه دعا له بثباتهِ على طاعات الله، لكن إذا حمدَ الله تعالى (الْعَاطِسِ): وسمعهُ كأن يقول العاطس: الحمدُ لله، / ويقول المشمِّت: يرحمُكم الله، فيقولُ العاطس: يهديكُم الله ويصلحُ بالكم.
          روي عن الأوزاعي: أن رجلاً عطسَ فلم يحمد فقال له: كيف تقولُ إذا عطستَ؟ قال: الحمد لله قال: يرحمكَ الله، فقال له: يرحمكم الله.
          وهو سنَّةٌ كجوابهِ عندنا، وقال الحنفيَّةُ: ابتداؤه وجوابهُ فرض كفايةٍ، وابتداؤهُ سنَّةُ كفايةٍ عند الجمهور، وقال ابنُ بطَّال: واجب وجوبَ سنَّةٍ.
          والمطابقُ من هذه السبعة للتَّرجمةِ قوله: ((أَمَرنا باتِّباعِ الجنائِزِ)).
          (وَنَهَانَا): عطف على ((أمرنا)) أي: نهيَ تحريمٍ (عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ): وفي روايةٍ: ((عن سبعٍ: آنيةِ الفضَّةِ)) بجر ((آنيةِ)) بالمد، جمع: إناء، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب بتقدير نحو: أعني.
          واستعمالها حرامٌ وكذا آنية الذَّهب بالأولى؛ لأن الخيلاءَ فيه أعظم، ولا فرقَ في الحرمة بين الرِّجالِ والنساء والخناثى، لما رواه الجماعةُ عن حُذيفة بن اليمانِ أن رسولَ الله صلعم قال: ((لا تَشرَبُوا في آنيَةِ الذَّهبِ والفضَّةِ، ولا تأكُلُوا في صحافِهَا))، ومن الآنيةِ: المجمرة والملعقة والمدهنُ والميل والمرآة والمكحلة.
          قال العيني: يستوي في ذلك الرِّجالُ والنساء لعمومِ النهي، وعليه الإجماع قال: ويجوزُ الشُّربُ في الإناء المفضَّضِ والجلوسُ على السَّرير المفضَّض إذا اتقى موضعَ الاستعمال، وقال أبو يوسف: يكرهُ، وقول محمَّدٍ مضطربٌ، ويجوز التَّجمُّل بالأواني من الذَّهب والفضة بشرط أن لا يريدَ به التَّفاخر والتَّكاثُر؛ لأن فيه إظهار نِعَم الله تعالى، انتهى.
          وأقول: لا يجوز في مذهبنا شيءٌ من ذلك، نعم الإناء المضبَّبُ يجوزُ استعماله إذا لم تكن الضَّبَّة كبيرةً لزينة، والعلَّةُ في تحريمه مركَّبةٌ من ثلاثة أشياء: ضيق النَّقدينِ وكسرُ قلوبِ الفُقَراءِ والخيلاء.
          (وَخَاتَمِ الذَّهَبِ): بجر ((خاتم)) عطف على ((آنية))، لكن حرمتهُ على الرِّجالِ دون النساء.
          وقال العيني: ومن النَّاسِ من أباح التَّختُّم بالذهب لما روى الطحَّاوي بسندهِ إلى محمَّدِ بن مالكٍ قال: رأيتُ على البراءِ خاتماً من ذهبٍ، فقيل له فقال: قسَمَ رسولُ الله فألبسنيه، وقال: ((البِسْ ما كَساكَ الله ورسولُهُ))، والجواب: أن التَّرجيحَ للمحرم، وهذا كان قبل التَّحريمِ والنَّهي، وخرجَ به خاتم الفضَّةِ فهو جائزٌ بل لبسه سنَّةٌ للرجال.
          (وَالْحَرِيرِ): وحرمتُه خاصَّةٌ بالرِّجالِ إلا ما استثني مما سيأتي الكلامُ عليه _إن شاء الله_ في اللباس مستوفى، وذلك لما روى أبو داود وابن ماجه بسندهما: عن عليٍّ ☺: أن النَّبيَّ صلعم أخذ حريراً فجعله في يمينه وأخذ ذهباً فجعله في شماله ثم قال: ((إنَّ هذين حرامٌ على ذُكُور أمَّتي))، زاد ابنُ ماجه: ((حلٌّ لإناثِهِم))، وفي بعضِ الروايات بإسقاط: ((إن)) ورفع ((هذان)) وتأنيث ضمير: ((لإناثها)).
          (وَالدِّيبَاجِ): بكسر الدال المهملة وتفتح وبالجيم، فارسيٌّ معرب، وهو الثِّيابُ المتَّخذةُ من الإبريسم (وَالْقَسِّيِّ): بفتح القاف وقد تكسر والسين المهملة مشددة فياء، نسبةً إلى القَس _بفتح القاف_ بلدٌ بناحيةِ مصر على ساحلِ البحر.
          وقال الجوهريُّ: أصحابُ الحديث يقولونه بكسر القاف وأهلُ مصر، وفسَّرت في كتاب اللباس بثياب يؤتى بها من الشَّام أو مصر مضلَّعةٌ فيها حريرٌ أمثال الأترُجِّ، أو كتان مخلوطٌ بحرير، وقيل: من القزِّ، وهو رديءُ الحرير.
          (وَالإِسْتَبْرَقِ): بكسر الهمزة: غليظُ الحرير.
          قال الكرمانيُّ: وهو فارسي معرب عرب بزيادة القاف في آخره.
          قال في ((الفتح)): سقطَ من المنهيَّات في هذا الباب واحدة سهواً إما من المصنِّف أو من شيخه، انتهى.
          واقتصرَ الكرمانيُّ على أن الذي اختصرَ الحديث أبو الوليد، وزاد: أو نسيه وقد ذكرها المصنِّفُ في باب خواتيم الذَّهب بأنَّها الميثرةُ الحمراء.
          وقال ابنُ بطَّال: وهي ركوبُ المياثر؛ أي: الرُّكوبُ عليها، واختلفَ في تفسيرها: فقيل: هي الوطاء يكون على السرج من حريرٍ أو صوفٍ أو غير ذلك، وقيل: إنها جلودُ السِّباعِ.
          وهذا السَّابع وإن كان قد يكون ممَّا لا يحرم هو من باب استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وهو جائز عند الشَّافعي، ومثلهُ الأمرُ في المأمورِ به فإنه في بعضها للوجوب، وفي
           / بعضها للنَّدب، وأما من لا يرى جواز الجمع بينهما _كالحنفيَّة_ فهو عندهم من عمومِ المجاز، قاله الكرمانيُّ ثمَّ استشكل تجويز الشَّافعي الجمعَ بينهما مع أن شرط المجازِ أن تكون له قرينةٌ مانعةٌ عن إرادةِ المعنى الحقيقي.
          وأجاب: بأن المجازَ عند الأصوليين أعمُّ منه عند البيانيين، فكما جاز عندهم في الكناية إرادةُ المعنى الأصلي والكنائي في استعمالٍ واحدٍ، كذلك المجازُ عند الشَّافعي.
          والحاصل: أنه لا يشترطُ في المجاز عنده أن تكون قرينته دالَّةً على إرادةِ غير الحقيقة، سواءٌ صرفت عن إرادةِ الحقيقةِ أم لا، ولا يضرُّ كون بعض هذه الأحكام عامًّا للرِّجالِ والنساء وبعضها خاصًّا بالرجال، مع أنَّ ظاهرَ الحديث يقتضي المساواةَ؛ لأن التفصيلَ علمٌ من أحاديثٍ أخر، كما أشرنا إلى بعضِ ذلك.
          وقال أيضاً: الحرير عامٌّ والثلاثة بعده خاصَّةٌ، وفائدةُ ذكرها بعد العام بيان الاهتمام بحكمها، أو دفع توهُّم أن تخصيصَها باسمٍ مستقلٍّ يُنافي دخولها تحت حكمِ العام، أو الإشعار بأنَّ هذه الثلاثة غير الحريرِ في العرف، انتهى ملخَّصاً فتدبَّره.
          وحديثُ الباب أخرجه المصنف في اللباس والمظالم والطِّب والنُّذور وغير ذلك، وأخرجهُ مسلمٌ في الأطعمة، والترمذيُّ في الاستئذان واللباس، والنسائيُّ في الجنائز والأيمان والنُّذور والزينة، وابن ماجه في الكفَّارات واللباس.