الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب التكبير على الجنازة أربعًا

          ░64▒ (بَابُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَرْبَعاً): بإضافة ((بابُ)) وهو الظاهر، ويحتملُ عدمها، فالتكبير مبتدأ، و((على الجنازة)) متعلق بنحو: واجب، هو الخبر و((أربعاً)) حال، ويحتمل تعلُّقه بالتكبير، والخبر مقدَّر بنحو: يلزم أربعاً، وفي بعض النسخ: ((على الجنائز)) بالجمع.
          قال في ((الفتح)) نقلاً عن الزين ابن المنير: أشار بهذه الترجمة إلى أن التَّكبير لا يزيدُ على أربع، ولذلك لم يذكر ترجمةً أخرى، ولا خبراً في الباب.
          وقد اختلف السَّلفُ في ذلك، فروى مسلم عن زيدِ بن أرقم: أنه يكبِّرُ خمساً، ورفعَ ذلك إلى النَّبي صلعم، وروى ابن المنذر عن ابن مسعود: أنه صلَّى على جنازة رجلٍ من بني أسد فكبَّر خمساً، وروى ابنُ المنذر وغيره عن عليٍّ أنه كان يكبِّر على أهل بدرٍ ستًّا، وعلى الصَّحابة خمساً، وعلى سائرِ الناس أربعاً، وروى ابن المنذرِ أيضاً بسندٍ صحيحٍ عن أبي مَعْبد قال: صلَّيت خلف ابن عباس على جنازةٍ، فكبر ثلاثاً.
          وقال ابنُ المنذر: ذهبَ أكثرُ أهل العلم إلى أن التَّكبير أربع، وفيه أقوالٌ أخر، فذكر ما تقدَّم، قال: وذهبَ بكر بن عبد الله المزني إلى أنه لا ينقصُ عن أربع، وقال ابن مسعود: كبِّر ما كبر الإمام.
          قال: والذي نختارهُ: ما ثبت عن عمر، ثم ساق بإسنادٍ صحيحٍ إلى سعيد بن المسيب أنه قال: كان التَّكبير أربعاً وخمساً، فجمعَ الناس عمر على أربع، وروى البيهقي بإسنادٍ حسنٍ إلى أبي وائل قال: كانوا يكبِّرون على عهدِ رسول الله صلعم سبعاً وخمساً وستاً وأربعاً، فجمع عمرُ الناس على أربع، كأطولِ الصَّلاة، انتهى.
          وقال ابن بطَّال: واختلفَ الصَّحابة فيها من ثلاثٍ إلى سبع، وما سوى الأربع شذوذاً لا يلتفت إليه، وقال النَّخعي: قُبِض رسول الله والناس مختلفون، فمنهم من يقول: كبَّر النبي أربعاً، ومنهم من يقول: كبَّر خمساً وسبعاً، فلمَّا كان عمر جمع الصَّحابة فقال: انظروا أمراً تجتمعون عليه، فأجمعَ رأيهم على أربعٍ، فيحتمل أن ما روي عن الصَّحابة من خلاف في ذلك كان قبل اجتماعِ الناس على أربعٍ، وقد صلَّى أبو بكرٍ على النَّبي صلعم فكبر أربعاً، وصلى عمر على أبي بكرٍ فكبر أربعاً.
          وما جمع الناسَ عليه هو ما عليه أكثر أهل العلم، ومنهم الأئمَّة الأربعة وأتباعهم، سوى أبي يوسف؛ فإنه قال: يكبِّر خمساً، كما في ((المبسوط))، وهي روايةٌ عن أحمد.
          وقال ابن بطَّال: جمهورُ الفقهاء على أنَّ تكبير الجنائز أربع، روي ذلك عن عمر وابنه، وزيد بن ثابت، وابن أبي أوفى، والبراء بن عازب، وأبي هريرة، وعقبة بن عامر، وهو قولُ عطاء ومالك والثَّوري والكوفيين والأوزاعي وأحمد والشَّافعي.
          قال في ((الفتح)): وروى ابن أبو داود في ((الأفراد)) عن أبي هريرة: ((أنَّ النبي صلعم صلَّى على جنَازَةٍ فكبَّرَ أربَعاً))، وقال: لم أرَ في شيءٍ من الأحاديث الصَّحيحة أنه كبَّر على جنازةٍ أربعاً إلا في هذا، انتهى.
          وأقول: لعلَّ مرادَه: على جنازةٍ حاضِرةٍ، فلا ترد حديث الصلاةِ على النجاشيِّ المذكورةِ في ((الصَّحيحين)) مراراً.
          وقال ابنُ عبد البر: لا أعلم أحداً من فقهاءِ الأمصَارِ قال: يزيدُ في التَّكبير على أربعٍ إلا ابن / أبي ليلى.
          (وَقَالَ حُمَيْدٌ): مصغَّراً؛ أي: الشَّهير بالطَّويل، وهو حُميد بن أبي حميد الخزاعي البَصري.
          قال في ((الفتح)): هذا التَّعليقُ لم أرهُ موصولاً من طريق حميد، انتهى.
          فقول القسطلاني: ممَّا وصلَّه عبد الرَّزاق، لعله أرادَ من غير طريق حميد.
          (صَلَّى بِنَا أَنَسٌ): أي: ابن مالك؛ أي: على جنازةٍ (فَكَبَّرَ ثَلاَثاً): أي: بتكبيرةِ الإحرام (ثُمَّ سَلَّمَ): أي: ناسياً فانصرفَ (فَقِيلَ لَهُ): أي: قال له بعض من حضرَ عنده _ولم أقف على اسمه_ يا أبا حمزةَ إنَّك كبرت ثلاثاً (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ): أي: وصفُّوا خلفَه (ثُمَّ كَبَّرَ الرَّابِعَةَ): أي: بناءً على الثلاثة الأول (ثُمَّ سَلَّمَ): وكأنه لم يأتِ بمبطلٍ للصَّلاة.
          لكن ينافيه ما في ((الفتح)) وغيره: أن عبد الرزاق روى عن مَعْمر عن قتادة عن أنس: أنه كبَّرَ على جنازةٍ ثلاثاً ثم انصرفَ ناسياً، فقالوا: يا أبا حمزة: إنَّك كبرت ثلاثاً، قال: فصُفُّوا، فصَفُّوا، فكبر الرابعة، انتهى.
          إلا أن يقال: لعلَّه لا يرى البُطلان بالكلام الذي من مصلحة الناس، فليتأمل.
          ولو حمل قوله: ((ثم كبر الرابعة)): أي: بعد الإتيانِ بثلاثة تكبيراتٍ مستأنفة أيضاً لم يرد الإشكال بقوله: ((فصُفُّوا)) بالأمرِ؛ لأنَّه على هذا لم يقله في الصَّلاة لكن هذا العمل بعيدٌ جداً، فتدبَّره.
          وروى عن أنس الاقتصار على ثلاث، فقد روى ابنُ أبي شيبةَ عن عمران بن حُدَير قال: صلَّيتُ مع أنسِ بن مالكٍ على جنازة فكبر عليها ثلاثاً، لم يزد عليها، وروى ابنُ المنذر عن يحيى بن أبي إسحاق أنه قال: قيل لأنس: إن فلاناً كبَّر ثلاثاً، فقال: وهل التَّكبير إلا ثلاث؟.
          قال الحافظُ مُغلطاي: إحدى الروايتين وهمٌ.
          وقال في ((الفتح)): يمكن الجمعُ: بأن أنساً كان يرَى الثَّلاث مجزئة، والأربع أكملُ منها، وأما بأن من أطلقَ عنه الثلاث لم يذكر الأولى؛ لأنها إما افتتاح الصَّلاة، ويدلُّ له ما تقدَّم عنه في باب سنة الصَّلاة أنه لما قال: أوليسَ التَّكبير ثلاثاً؟ فقيل له: يا أبا حمزة التَّكبيرُ أربع قال: أجلْ، غير أن واحدةً هي افتتاحُ الصَّلاة.