الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما يستحب أن يغسل وترًا

          ░9▒ (بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ): أي: استحبابُ (أَنْ يُغْسَّلَ): بتشديد السين المهملة وتخفيفها، والفعل عليهما مبني للمفعول كسابقه، و((أن)) وصلتها نائب فاعله، فما مصدرية، وجوَّز ابن المنيِّر كونها موصولاً اسمياً وادَّعى أنه أظهر، واعترضهُ العيني في ((العمدة)) فقال: بل الأوَّلُ أظهرُ، بل لا يصحُّ الثاني، ونظر فيه في ((الفتح)) أيضاً قال: لأنه لو كان المرادُ ذلك لأوقع التَّعبير بمن التي لمن يعقل، انتهى.
          ونظرَ فيه العيني فقال: هذا نظرٌ يستحقُّ العمى؛ لأن المرادَ من الترجمة: بيان استحبابِ غسل الميت وتراً لا بيان من يستحب ذلك، انتهى.
          وأقول عليه فـ((يَستحِب)) مبني للفاعل، وفاعله يرجع لـ((ما))، و((يُغسل)) للمفعول؛ أي: الميت، والمستحبُّ لذلك رسولُ الله، إذ عند الأمر بقوله: ((اغسلنها))، ويلزم من ذلك استحبابَ الغسل وتراً، فلا يفوتُ المعنى الذي ادَّعى العيني تعيُّنه بجعل ((ما)) موصولة، نعم يرد عليه قول ((الفتح)) المذكور؛ لأن ((ما)) لما لا يعقل، والمرادُ هنا على هذا الوجه: العاقل، وجوابهُ بأن نقول: ما مشتركة بين العاقلِ ولو كان قليلاً وغيرهُ كما قاله جماعةٌ منهم السعد في ((التلويح)) إذا علمت ذلك ظهرَ لك صحَّةُ النظر، وإن أمكنَ الجواب عنه، وظهر صحَّةُ جعل ((ما)) موصولة، بل هو أظهرُ كما قاله ابن المنيِّر، وإذا كان كذلك فمن يستحقُّ أن يقال في نظره: هذا نظرٌ يستحقُّ العمى؟ فلا حولَ ولا قوَّة إلا بالله.
          على أنِّي أقولُ: يجوز أن يكون مرادُ ابن المنيِّر بكونها موصولةً: أنها واقعةٌ على ما لا يعقل، والمعنى: باب الأمر الذي يستحبُّ، وفاعله عائد على ((ما)) ثم بيَّنهُ بقوله: ((أن يغسلَ وتراً)) و((من)) المقدرة مع مدخولها بيان لـ((ما))، ويطَّرد حذفها مع إن وأن، أو يحمل أن ما بعدها خبرًا لمحذوف، وهذا كلامٌ صحيحٌ لا يرد عليه نظرٌ، فافهم.
          ويلزم من هذا الوجه استحبابُ غسل الميِّت (وِتْراً): بفتح الواو وكسرها، والمرادُ: ثلاث فما فوقها من الأوتارِ لا الواحدة؛ لأنها واجبةٌ، وإن صدقَ بها الوتر؛ لأنَّ الكلامَ في بيان المستحبِّ لا الواجب.