الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما جاء في عذاب القبر

          ░86▒ (بَابُ مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ): لم يتعرَّض المصنف كما في ((الفتح)) لكون عذابِ القبرِ يقعُ على الروح فقط أو عليها وعلى الجسدِ، وفيه خلافٌ شهيرٌ عند المتكلِّمين، وكأنه تركه؛ لأن الأدلة التي يرضَاها ليست قاطعةً في أحدِ الأمرين، واكتفَى بإثبات وجودهِ خلافاً لمن نفاهُ مطلقاً من الخوارجِ وبعض المعتزلة، كضرارِ بن عَمرو وبشر المريسي ومن وافقهما، وذهبَ بعضُ المعتزلة كالجياني إلى أنه يقعُ على الكفَّار دون المؤمنين، وبعضُ الأحاديث الآتية تردُّ عليهم.
          وخالفهم في ذلك أكثر المعتزلةِ وجميع أهل السُّنَّة وغيرهم، وأكثروا من الاحتجاجِ له، وقد تظاهرتِ الأدلَّة من الكتاب والسُّنَّة على ثبوته، وقد كثرت الأحاديث في ذلك حتى قال غيرُ واحدٍ: إنها متواترةٌ، وإذا لم يصح مثلها لم يصحَّ شيءٌ من أمرِ الدين.
          ولا مانع في العقلِ أن يعيدَ الله تعالى الحياة في جزءٍ من الجسد، أو في جميعهِ _على خلافٍ معروف_ فيثيبُه أو يعذِّبه، وإذا لم يمنعْه العقلُ ووردَ به الشرع وجب قبولهُ واعتقادُه، ولا يمنع منه كون الميت تفرَّقت أجزاؤه أو أكلتهُ السباع والطيور وحيتان البحر، إذ لا يمتنعُ تعلق روح الشَّخص الواحد في وقتٍ واحد بكل جزءٍ من أجزائهِ المتفرِّقة في المشارقِ والمغارب؛ فإن تعلُّقها ليس على سبيلِ الحلولِ في جزءٍ حتى يمنعَ من تعلُّقها في آخر، بل على سبيلِ التَّدبير.
          قال أبو عثمان الحدَّاد: لا ينافي عذاب القبر قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان:56]: لأنَّ الله أخبر بحياةِ الشُّهداء قبل يوم القيامة، وليستْ مرادة بهذه الآية، فكذا حياةُ القبور حال الحشرِ.
          قال ابن المنير: وأشكل ما في القضيَّة أنه إذا ثبتت حياتهم لزم أن يثبت موتهم بعد هذهِ الحياة، إذ يجتمعُ الخلقُ كلُّهم في الموتِ عند قوله تعالى: {لِمَنْ المُلْكُ اليَوْمَ} [غافر:16]، مع أنَّ الله تعالى قال: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى}.
          وأجاب: بأنَّ معنى الآية: أنهم لا يذوقونَ فيها ألمَ الموت إلا الموتة الأولى، فلا يُذاق بعد الموتِ من الحياة ألم الموت البتَّة، والموتُ لم تضفه العرب إلا للمؤلمِ باعتبار أنه ضدُّ: الحياة، فعلى هذا يخلقُ الله للحياةِ الثانية ضدًّا بعد مماته، لا يسمى ذلك الضدُّ موتاً وإن كان للحياة ضدًّا، جمعاً بين الأدلة العقليَّة والنقلية واللُّغوية، انتهى ملخَّصاً، وهو نفيس.
          ولما أرادَ المصنف الرَّدَّ على من زعمَ أن عذابَ القبر لم يُرَد إلا في أخبار الآحاد قال: (وَقَوْلِهِ تَعَالَى): بالجرِّ عطفاً على ((عذاب القبر))، وبالرفع عطف على ((باب)) أو على الاستئناف، وفي بعض الأصول: <وقول الله تعالى> ({إِذِ الظَّالِمُونَ}): ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: <{وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُوْنَ}>، والمرادُ بهم: اليهود فاللام للعهد، وقيل: للجنس فيدخلُ هؤلاء، وقيل: قومٌ بمكة أسلموا فأخرجهُم الكفَّارُ إلى قتال بدرٍ فلمَّا أبصروا أصحاب النبي رجعوا عن الإيمان، وقيل: هم الذين قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91]. وجواب {لَوْ} محذوف، والمعنى: لو لم يحصل منك رؤية، أو لو ترى زمان غمراتِ الظَّالمين، وقدره البيضاوي: بلو رأيت الظالمين لرأيتَ أمراً فظيعاً.
          ({فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}): أي: شدائده، جمع: غمرة، وأصله: من غمرهُ الماء: غشيه ({وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ}): / أي: لقبضِ أرواحهم أو بالعذاب ({أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}): أي: يقولون لهم: أخرجوها إلينا من أجسادكُم تغليظاً وتعنيفاً عليهم، فقد وردَ أن أرواحَ الكُفَّار تتفرَّق في أجسادهِم وتأبى الخروج فتضربُهم الملائكةُ حتى تخرج، وقيل: المعنى: أخرجوا أنفسَكُم من العذابِ وخلِّصوها من أيدينا، تقولُ لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً.
          واستدلَّ بهذه الآية على اتحاد النَّفس والروح، وهي مسألةٌ شهيرة فيها أقوالٌ كثيرةٌ ستأتي _إن شاء الله_ في تفسير قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85] الآية، فمما قيل: إن الرُّوح هو النَّفس الجاري لا يتألَّم ولا يلتذ، لكن لا حياة للنفس إلا به بخلاف النفس؛ فإنها تتألَّم وتلتذ.
          ({الْيَوْمَ}): أي: وقت الإماتةِ لما فيه من شدَّةِ الفزع، أو الوقت الممتدِّ من الإماتةِ إلى ما لا نهاية له، وفيه عذابُ البرزخِ والقيامة.
          ({تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:93]): الهُون: بضم الهاء (هُوَ الْهَوَانُ): أي: الإهانَةُ والذل، وسقطت: <هو> من بعض النسخ، وثبتت في بعض النسخ، وسقط: <الهون> ولأبي ذرٍّ زيادة: <قال أبو عبد الله: قيل: الهون... إلخ>، والمرادُ: العذاب المتضمِّن للشدَّةِّ والإهانة، وأضافه إلى الهون لتمكُّنه فيه.
          (وَالْهَوْنُ): أي: بالفتح (الرِّفْقُ): قال شيخ الإسلام: ذكره لمناسبة ((الهُون)): بالضم، روى الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس في تفسيرِ هذه الآية، قال: هذا عند الموتِ، والبسط: الضَّرب {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27]، انتهى.
          ويشهدُ له: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}.
          قال: وهذا وإن كان قبل الدفن فهو من جملةِ العذاب الواقع قبل يوم القيامة، وإنما أضيفَ إلى القبرِ لكون معظمهِ يقع فيه، ولكون الغالبِ على الموتى أن يقبروا، وإلا فالكافرُ ومن شاء الله تعذيبَه من العُصاةِ يعذَّبُ بعد موتهِ ولو لم يُدفن، ولكن ذلك محجوبٌ عن الخلقِ إلا من شاء الله، انتهى.
          وبه يظهرُ وجه ذكر هذه الآية في هذا الباب (وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ): وفي بعض الأصول الصَّحيحة: <وقوله تعالى> ({سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}): أي: بالفضيحةِ في الدُّنيا وعذاب القبور، روى الطبري وابن أبي حاتم والطبراني في ((الأوسط)) عن ابن عباس قال: خطبَ رسول الله صلعم يوم الجمعة فقال: ((اخرُجْ يا فلان فإنَّكَ منافقٌ)) فأخرج من المسجد ناساً منهم فضحهم، فجاء عمر وهم يخرجونَ من المسجد فاختبأ منهم حياءً أنه لم يشهد الجمعة، وظنَّ أن الناس انصرفوا منها، واختبؤوا هم من عمر لظنِّهم أنه قد علمَ بأمرهم، فجاء عمر فدخل المسجد، فإذا الناس لم يصلوا، فقال له رجلٌ من المسلمين: أبشر يا عمر فقد فضحَ الله المنافقين.
          فهذا العذابُ الأول، والعذاب الثَّاني: عذاب القبر.
          وقال الطبري بعد أن ذكر اختلافاً: والأغلبُ: أن إحدى المرتين عذابُ القبر، والأخرى: تحتملُ الجوع أو السَّبي أو القتل أو الإذلال أو غير ذلك.
          ({ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101]): أي: في جهنَّم (وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ}): أي: فرعون وقومه، واستغنى بذكرهِم عن ذكره للعلمِ بأنه أولى بذلك ({سُوءُ الْعَذَابِ}): أي: الغرق في الدُّنيا والانتقال منه إلى النار ({النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيَّاً}): أي: في الصَّباحِ والمساء ما دامت الدنيا، هذه الجملة مستأنفة، أو {النَّارُ} بدل من: {سُوءُ الْعَذَابِ} أو خبر لمبتدأ محذوف، وعليها: فـ{يُعْرَضُونَ} حال من {النَّارُ} أو من الآل.
          قال البيضاوي: وقرئت منصوبةً على الاختصاصِ، أو بإضمار فعل يفسره {يُعْرَضُونَ} مثله يصلون؛ فإن عرضَهم على النار: إحراقهم بها، مثل قولهم: عرض الأسارى على السَّيف: إذا قتلوا به.
          روى الطبري عن هذيل بن شرحبيل، قال: أرواحُ آل فرعون في طيرٍ سود تغدو وتروحُ على النار، فذلك عرضها، وروى ابنُ أبي حاتم عن ابن مسعود: أن أرواحهم في أجواف طيورٍ سود تعرضُ على النار بكرةً وعشياً، فيقال لهم: هذه دارُكم، وقال ابن عباس: {يُعْرَضُونَ}: تعرضُ أرواحهم على النار غدواً وعشياً، وهكذا قال مجاهد وقتادة. /
          قال القرطبيُّ: الجمهورُ على أنَّ هذا العرضَ في البرزخِ، وهو حجَّةٌ في إثباتِ عذاب القبر، وقال غيره: وقعَ ذكر عذابِ الدَّارين في هذه الآية مفسَّراً، وهو حجَّة على من أنكرَ عذابَ القبرِ مطلقاً، لا على من خصَّه بالكفَّار، وفيه دليلٌ على عدمِ فناءِ النفس، وعلى عذابِ القبر.
          ({وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}): أي: القيامة، الظَّرف متعلِّق بقوله: ({أَدْخِلُوا}): أي: يقالُ لهم يوم قيام الساعة: {أدخلوا} ({آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45-46]): أي: عذاب جهنَّمَ؛ فإنه أشد مما كانوا، أو أشد عذابها، و{أَدخِلوا} بفتح الهمزة للقطع وكسر الخاء، أمرٌ للملائكة و{آل} مفعوله، وهي قراءة نافع وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص، وقرأ الباقون بوصل الهمزة وضم الخاء وعليه: فآل: منادَى بحذف حرف النِّداء.
          تنبيه: من الآيات الدالَّةِ على عذاب القبر: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]، فقد روى الترمذيُّ عن علي قال: ما زلنا في شكٍّ من عذابِ القبر حتى نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1-2] ومنها قوله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124]، فقد روى ابن حبَّان في ((صحيحه)) من حديث أبي هريرة مرفوعاً في قوله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} قال: ((عذاب القبر))، فاعرفه.