الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة

          ░41▒ (بَابُ مَنْ لَمْ يُظْهِرْ): بضم التحتية (حُزْنَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ): أي: عند نزولها به، فتركَ ما أبيح له إظهارهُ قهراً للنفس بالصبر الذي قال الله تعالى فيه: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126].
          قال الطبري: أحوالُ الناس في الصبرِ متفاوتةٌ، فمنهم من يظهرُ حزنه على المصيبةِ في وجهه بالتغير، وفي عينيهِ بانحدارِ الدموع، ولا ينطق بشيءٍ من القول، ومنهم من يجمعُ ذلك، ويزيد عليه إظهاره في مطعمه وملبسهِ، ومنهم من يكون حالهُ في المصيبة وقبلها سواء.
          واختلف في المستحقِّ لاسم الصَّبر منهم، فرجَّح بعضهم أنه الذي يكون حالهُ في المصيبة وقبلها سواءٌ في الرضا بها، ولهذا قال بعض الصُّوفيَّة: الوليُّ لا تتمُّ له الولاية إلا إذا تمَّ له الرِّضا بالقدر، ولا يحزنُ على شيء، وكان ابن سيرين عند المصيبة، كما هو قبلها يتحدَّث ويضحك، إلا يوم ماتت حفصَة؛ فإنه جعل يضحَك وهو يعرف في وجههِ، وسُئل ربيعة: ما منتهى الصَّبر؟ فقال: أن يكون يوم تصيبهُ المصيبة مثله قبلها.
          وروى المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً قال: ((قال الله ╡: إذا ابتليتُ عبدِيَ المؤمنَ فلم يشكُنِي إلى عُوَّادهِ أنشطتُهُ من عَقَالي، وبدَّلته لحماً خيراً من لحمهِ، ودماً خيراً من دَمهِ ويستأنِفُ العملَ)).
          وقال آخرون: الصَّبرُ المحمودُ: هو تركُ العبدِ عند حدوثِ المكروه عليه وصفه وبثه للنَّاس، ورضاه بقضاءِ ربِّه وتسليمهِ لأمره، وأما جزعُ القلب وحزنُ النَّفس ودمع العين، فذلك لا يُخرجُ العبد عن الصَّابرين إذا لم يتجاوزهُ إلى ما لا يجوزُ فعله.
          وقال طلحة بن مصرِّف: أنبِئتُ أن يعقوبَ بن إسحاق عليهما السلام دخلَ عليه جارهُ فقال: يا يعقوب ما لي أراك قد تهشَّمتَ وفنيتَ ولم تبلغْ من السِّنِّ ما بلغَ أبوكَ؟ فقال: هشَّمني ما ابتلاني الله به من يوسف، فأوحَى الله إلى يعقوب: أتشكو إلى خَلقِي؟ قال: يا رب خطيئةٌ فاغفرها لي قال: قد غفرتُها لك فكان بعد ذلك يقول: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} الآية [يوسف:86].
          وقد توجَّع الصَّحابة على فقد النَّبي صلعم وحزنوا له أشدَّ الحزن، وقال طاووس: ما رأيتُ خلقاً من خلق الله أشد تعظيماً لمحارمِ الله من ابن عبَّاس، وما ذكرتُه قط فشئتُ أن أبكِي إلَّا بكيتُ عليه، ورأيتُ على خديهِ مثل الشِّراكين من بكائهِ على رسولِ الله.
          وقال أبو عثمان: رأيتُ عمر بن الخطَّاب لما جاءه نعيُ النُّعمان بن مقرِّن وضع يدهُ على رأسهِ وجعل يبكي، ولما مات سعيد بن الحسن بكى عليه الحسنُ حولاً، فقيل له: يا أبا سعيدٍ تأمرُ بالصَّبر وتبكي؟ قال: الحمد لله الذي جعل هذه الرَّحمةَ في قلوبِ المؤمنين، يرحمُ بها بعضهم بعضاً، تدمعُ العين ويحزنُ القلب، وليس ذلك من الجزع، إنما الجزعُ ما كان من اللِّسان واليد، الحمدُ لله الذي لم يجعل بكاءَ يعقوب على يوسف وبالاً عليه، وقد بكى عليه حتى ابيضَّت عيناهُ من الحزن.
          وقد بكى النبي صلعم على ابنتهِ زينبَ وعلى ابنه إبراهيمَ وفاضتْ عيناه، وقال: ((هذه رحمَةٌ جعَلَها اللَّهُ فِي قلُوبِ عِبادِه)) وبكى عليه السلام لقتل جُلَّة الإسلام وفضلاء الصحابة، وتوجَّع لفقدهم، فإذا كان النبي صلعم الإمام المتَّبع به نرجو الخلاص من ربِّنا ╡، وقد حزن بالمصيبة وأظهر ذلكَ بجوارحهِ ودمعهِ، وأخبر أنَّ ذلك رحمةٌ جعلها الله في قلوبِ عبادهِ، فقد صحَّ قوله من وافق ذلك، وسقطَ ما خالفه، انتهى.
          (وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ): أي: (الْقُرَظِيُّ): بضم القاف، نسبةً لبني قُريظة، حليف الأوس (الْجَزَعُ): بفتحتين (الْقَوْلُ السَّيِّئُ): خبرٌ عن الجزع و((السيئ)): نعتٌ للقول، والمراد به: ما يبعثُ الحزن غالباً.
          (وَالظَّنُّ السَّيِّئُ): قال في ((الفتح)): هو اليأسُ من تعويضِ الله تعالى المصاب في العاجل ما هو أنفع له من الفائتِ، أو الاستبعادُ لحصول ما وعدَ به من الثَّواب على الصبر، ورواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) عن القاسم بن محمد كقول محمد بن كعب، انتهى.
          وجه مناسبة هذا التَّعليق للترجمة: من حيث المقابلة؛ فإن من ترك إظهارَ الحزن من القول الحسنِ والظن الحسن وإن إظهاره مع الجزع قول سيِّئ وظنٌّ سيِّئ، فتأمَّل.
          (وَقَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]): أي: لا إلى غيره.
          قال في ((الفتح)): البثُّ: شدَّة الحزنِ، ووجهُ مناسبة الآية للترجمة _كما قال الزين ابن المنير_ أن قولَ يعقوب لما تضمَّن أنه لا يشكو بتصريحٍ ولا تعريضٍ إلا لله تعالى، وافقَ مقصود الترجمة، وكان خطابهُ تعالى له بذلك بعد قوله: وا أسفا على يوسف، وتقدَّم عن ابن بطال: أنَّ ذلك بعد شكايته لجارٍ له ومعاتبة الله تعالى لهُ / .