الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الكفن في ثوبين

          ░19▒ (بَابُ الْكَفَنِ): أي: جواز التكفين (فِي ثَوْبَيْنِ): قال في ((الفتح)): كأنَّهُ أشارَ إلى أن الثلاث في حديثِ عائشة ♦ المتقدم في الباب قبله ليس شرطاً في الصِّحَّة، وإنما هو مستحبٌّ، وهو قولُ الجمهور، واختلفَ فيما إذا شحَّ بعضُ الورثة في الثاني والثالث، والرَّاجحُ: أنه لا يلتفتُ إليه، وأما الواحد السَّاترُ فلا بدَّ منه بالاتِّفاقِ، انتهى.
          وأقول: قد يردُّ عليه ما نقلهُ فقهاؤنا عن النَّصِّ والأكثرين على أن الواجب في التَّكفينِ: ما يسترُ العورة، وإن كان المذهب الصَّحيحُ ما ذكره وجرى عليه إمام الحرمين والغزالي وجمهورُ الخراسانيين، وجمع بعضهم بينهما: بأنَّ الواجب لحقِّ الله: ساتر العورة، ولحقِّ الميت: باقي البدن.
          وقال العيني: قال ابنُ المنذر: لا خلافَ بين العلماء أنه يجوز تكفين المرأةِ في ثوب الرجل وعكسه، وأكثر العلماء على أنها تكَّفنُ في خمسة أثواب، وقال ابنُ القاسم: الوتر أحبُّ إلى مالكٍ في الكفن وإن لم يوجد إلا ثوبان تلفُّ فيهما، وقال ابنُ شعبان: المرأةُ في عدد الأكفان أكثرُ من الرجال، وأقلُّهُ لها خمسةٌ، وقال أشهب: لا بأس بالتَّكفين في ثوب الرجلِ والمرأة.
          وقال ابنُ المنذر: درعٌ وخمار ولفافتان: لفافةٌ تحت الدِّرع تلفُّ فيها، وأخرى فوقه، وثوبٌ لطيف يشدُّ على وسطها يجمعُ ثيابها.
          وقال أصحابنا: تكفَّنُ المرأةُ في خمسة أثواب: درعٌ وإزار وخمار ولفافة وخرقة تربط فوق ثديها، تلبس الدِّرعَ أولاً، ثم يوضع الخمارُ على رأسها كالمقنَّعةِ منشوراً فوق الدرع تحت اللفافة والإزار، ثمَّ الخمارُ فوق ذلك تحت الإزار، ثمَّ الإزارُ تحت اللفافة، وتربطُ الخرقة فوق اللفافة عند الصَّدر.
          وقال ابنُ المنذر: كلُّ من يحفظ عنه يرى أن تكفن المرأة في خمسةِ أثوابٍ، كالشَّعبي والنخعي والأوزاعي والشَّافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وعن ابن سيرين: تكفَّنُ المرأة في خمسة أثوابٍ: درع وخمارٌ ولفافتين وخرقة، وعن النَّخعيِّ: تكفَّن في خمسةٍ: درع وخمار ولفافة ومبطن ورداء، وعن الحسنِ: في خمسة: درع وخمار وثلاث لفائف، وعن عطاء: تكفَّنُ في ثلاثة أثواب: درع وثوب تحته تلفُّ به وثوب فوقه.
          وقال الشَّافعي: تكفن في خمسة: ثلاث لفائف وإزار وخمار، وفي القديم: قميصٌ ولفافتان، وهو الأصحُّ واختارهُ المزني، وقال أحمد: تكفَّن في قميص ومئزرٍ ولفافة ومقنعة، وخامسةٌ يشد بها فخذاها، انتهى.
          وأقول: سبقهُ إلى الكثير مما نقله ابن بطَّال، وأما ما ذُكرَ أنه الأصحُّ في مذهب الشافعي فلم أرهُ منقولاً، ولعل في نسخة العيني سقط إزار وخمار عقب قميص، فتأمَّل.
          ولم يبيِّن مقدار كفنِ الرجل عنده فنقول: قال أئمَّتنا: الأفضل للذَّكر: تكفينهُ بثلاثة أثوابٍ بيض لفائف متساوية في عمومها لجميع البدن، وفي عرضها وطولها اتِّباعاً لما فعل به عليه السلام، والأولى أن تكون الأولى أوسع، وإن كُفِّن الرجل في خمسة زيد عمامة وقميص تحت اللفائف، كما فعلهُ ابن عُمر بولدٍ له، وإن كُفِّنت المرأة في خمسةٍ _وهو الأفضل_ فإزارٌ وخمارٌ على رأسها، وقميصٌ على جميع بدنها ولفافتان متساويتان اتباعاً لفعله صلعم ببنته زينب، وقيل: أم كلثوم.
          وفي قول: ثلاث لفائف وإزار وخمار، وقد تجب الثلاثة، وذلك لمن لم يكنْ عليه دينٌ أو رضي الغرماء وخلَّفَ تركةً، فليس للورثة حينئذٍ ولا لبعضهم التَّكفينُ بأقل منها، والواجبُ في التَّكفينِ: ثوبٌ يسترُ جميع البدن إلا رأس المحرم ووجهُ المحرمة، لا فرقَ بين الرجل والمرأة والخنثى، وهو المرجَّحُ عند المتأخِّرين وبعض المتقدمين، ورجَّحَ الأكثرون أن الواجب: ساتر العورةِ، ويختلفُ بالذكورة والأنوثة والرق والحريَّةِ، وصحَّحهُ النووي في سائرِ كتبه إلا ((الإيضاح))، لكن المعتمد الأول، ويكره الزيادةُ على خمسة أكفانٍ للرجل والمرأة؛ لأنه إسرافٌ، وقيل: تحرُم، وجزمَ به ابن يونس، وللمسألة فروعٌ كثيرة مذكورةٌ في الفروع.
          واختلفَ في / مقدار الواجبِ عند المالكيَّة أيضاً.
          قال في ((مختصر خليل)): وهل الواجب ثوبٌ يسترهُ أو ستر العورة والباقي سنة؟ ثم قال: وندب السبع للمرأةِ، انتهى.
          وقال في ((مختصر ابن الحاجب)): وأقله: ثوبٌ ساترُ لجميعه، وأكثرهُ سبعة، ولا يقضى بالزائد مع مشاحة الورثة، ثمَّ قال: وفي الحرير ثالثها يجوزُ للنساء.
          وقال في شرح ((الرسالة)): وظاهرُ ما قال الشيخ من استحباب السَّبع عامٌّ للرجال والنساء، والذي في ((المختصر)): اختصاصُ استحباب السبع بالمرأةِ وكراهة ما زادَ على الخمسةِ للرجل، انتهى.
          وأقلُّهُ عند الحنابلة ثوبٌ واحد يسترُ جميع البدن للرَّجل وغيره، والأفضلُ للرجل: تكفينهُ في ثلاث لفائف بيض من قطن، ويكرهُ له أكثر منها، ويسن للمرأة والخنثى خمسةُ أثوابٍ بيض من قطن، وهي إزارٌ وقميص ولفافتان وخمار، ويحرمُ تكفين المرأة بحريرٍ على الأصح، وعن أحمد: أنه يكره وقيل: يباحُ ذلك من غير كراهةٍ والأصح عندهم التَّحريم، قالوا: لأنه أبيحَ في الحياة للزِّينة والشَّهوة وقد زال ذلك بموتها.