الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال

          ░48▒ (بَابٌ): بالتنوين (مَنْ تَبِعَ): بكسر الموحدة (جَنَازَةً): أي: مشيِّعاً لها، وإن كان ماشياً أمامها (فَلاَ يَقْعُدُ): مجزوم بـ((لا)) الناهية، والجملة في محل جزم جواب ((من)) الشرطية.
          (حَتَّى تُوضَعَ): متعلِّق بـ((لا يقعد))، و((حتى)) للغاية أو بمعنى: إلا (عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ): أي: إلى الأرضِ.
          قال في ((الفتح)): كأنه أشارَ بهذا إلى ترجيح رواية من يروي في حديث الباب: حتى توضعَ بالأرض على رواية من روى: ((حتَّى تُوضَع فِي اللَّحْد))، وفيه اختلافٌ على سهيلِ بن أبي صالح عن أبيه، قال أبو داود رواه أبو معاوية عن سُهيل فقال: ((حتَّى توضَع فِي اللَّحْد))، وخالفهُ الثوري وهو أحفظ فقال: ((بالأرض))، ورواه جرير عن سهيل فقال: ((حتَّى تُوضَع)) حسْبُ، وزاد: قال سهيل: ورأيت أبا صالحٍ لا يجلس حتَّى توضعَ عن مناكبِ الرجال.
          ثمَّ قال: وفي ((المحيط)) للحنفيَّة: الأفضلُ: أن لا يقعدَ حتى يهالَ عليها التُّراب، وحجَّتهم رواية أبي معاوية، ورجَّحَ الأول عند البخاريِّ بفعل أبي صالحٍ؛ لأنه راوي الخبر، وهو أعرفُ بالمراد، ورواية أبي معاوية مرجوحةٌ، كما قال أبو داود.
          (فَإِنْ قَعَدَ): أي: من تبعَ الجنازة (أُمِرَ بِالْقِيَامِ): أي: ندباً لكراهةِ القعودِ قبله.
          قال في ((الفتح)): وفيه إشارةٌ إلى أن القيام في هذا لا يفوتُ بالقعود؛ لأنَّ المراد به تعظيمُ أمر الموت وهو لا يفوتُ بذلك، ثم قال فيه: واختلفَ الفقهاء في ذلك، فقال أكثرُ الصحابة والتابعين باستحبابه، وهو قول الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، وروى البيهقي عن أبي هريرة وابن عمر وغيرهما: أنَّ القائم مثل الحاملِ في الأجر.
          وقال الشَّعبي والنَّخعي: يكرهُ القعودَ قبل أن توضعَ، وقال بعض السَّلف: يجبُ القيام، واحتجَّ له برواية سعيدٍ عن أبي هريرة وأبي سعيد: قالا: ((ما رَأينَا رسُولَ الله صلعم شهِدَ جنَازةً قط فجلَسَ حتَّى تُوضَع))، أخرجه النسائي، انتهى.
          وأقول: لم يبيِّن مذهب الشَّافعية والمالكية والحنفية: فأما الشَّافعية، فقال في ((العباب)): ولا يقعد حتى يوضع السرير.
          وأما مذهب المالكيَّة فقال ابن بطال هنا: والعمل في هذا على ما روى ابن وهب عن ابن عمر وأصحاب محمد: أنهم كانوا يجلسون قبل أن توضع الجنائز.
          وأما الحنفيَّة فلم ينقل عن أحدٍ منهم سوى محمد بن الحسن، ومذهبهم كالشعبي، قال في ((التنوير)) و((شرحه)) للعلائي: وإذا وصلوا إلى قبرهِ كره الجلوس قبل وضعهِ عن الأعناقِ للنَّهي عنه، ولا يقومُ لها من رآها، وما وردَ فيه منسوخٌ، انتهى.
          وبالسند قال: